بقلم: مرتضى علي الحلّي لقد بيّنا في مقال سابق مفهوم ظاهرة البيوتكنولوجيا -وهي استعمال التطبيقات الرقميّة الحديثة- وآثارها الخطيرة على الفرد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وآليّات حراكها في التوظيف الفكري والثقافي سلبًا وتطبيقًا، وهنا نضع بعض ما هو الأهم في جانب الوقاية والدفاع وتجنّب الأضرار المُحتَمَلة من ذلك. 1- العمل على تجذير الانتماء الاعتقادي ومعياريّته الربانيّة وأهميّته في وعي وتلقي شبابنا وفق وجوب الإيمان بوجود الله تبارك وتعالى وتوحيده وعبادته وطاعته في دينه الحقّ. لأنّ تجذير مفهوم الانتماء العقائدي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي والفكري في نفوس الأفراد بصورة فعليّة هو الأساس الأقوى والآمن في حفظ النفس وعدم تأثّرها بما يستهدفها قيميّاً وثقافيّاً وعقائديّاً وسلوكيّا، وهذا عين ما أسسَ له الإسلام العزيز فكريّاً وثقافيّاً، قال الله تعالى مُفصِحًا عن هذا المفهوم: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس 3) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات 13) (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم 22). فلنلحظ وندرك أهميّة جَعلِ الله تعالى الشعور الاعتقادي بأصالة الخالق وجوداً، وضرورة الانتماء إلى الحاضنة الاجتماعيّة والأخلاقيّة السليمة سلوكاً، والقائم على أساس التقوى طريقاً وتعارفاً وأغراضا، وفق حقيقة التنوع الانساني والاجتماعي ، وأنّ لكلّ أمّةٍ قيمها وأعرافها وأصولها وإن تشاركت مع الأمم الأخرى في بعضها، ولكن يبقى من الضروري تعزيز مفهوم الانتماء فرداً وأمةً ومنهجًا وسلوكًا. هذ هي المنطلقات الواقعيّة حياتيًّا، والتي يجب أن يكون معيارها التقوى في التفاضل والتعامل المُتبادل والتواصل الثقافي المُقارن انثروبولوجيًّا وأثنولوجيّا مع غيرنا . فينبغي غرس هذا المفهوم الانتمائي التربوي القيّمي في نفوس الأفراد حتى نتمكّن من أن نبني جيلاً واعيًا وحضاريًّا ناضجًا في فكره وسلوكياته وخياراته وقادرًا على حفظ نفسه ومعتقده وثقافته وعرفه المقبول والمعقول، في قبال ما تستهدفه الإيديولوجيات المعاصرة بواسطة تقنيّة البيوتكنولوجيا وأدواتها في الغزو الثقافي وضرب المنظومات الاعتقادية والأخلاقيّة وهدمها بمعول التواصل السلبي والتلقي غير المعياري والانفعالي والارتدادي وتذويب الانتماء المستقيم تحت مظلة العولمة ومبانيها المضادة للإسلام الحكيم وقيمه القويمة. 2- اعتماد مبدأ التَنميَّة الذاتيّة للإنسان نفسًا وسلوكًا وتدبيرًا وموقفًا وارشادًا، والتركيز على إشعاره بالتقدير الشأني والتكريم الشخصي، وهذا المبدأ من أبرز ما تحددَ به منهاج القرآن الكريم في تربية الأفراد على أساس أهميّة بناء الذات الإنسانيّة وعدم توهينها اتّباعًا. وتقوية هذا الشعور النفسي عندهم بأنّ لشخصيّاتهم حقيقة وجوديّة وفكريّة وأخلاقيّة واجتماعيّة مستقلة يجب أن تُحترَم كما يجب احترام الآخرين، وبمراعاة هذا المبدأ الوقائي يمكن مواجهة ظاهرة الاختطاف الفكري والثقافي والسلوكي التي تتبناها غرف عمليات تقنيّة البيوتكنولوجيا في العصر الراهن وفي إطار الحرب الناعمة والباردة . 3- ضرورة توعية الأفراد توعيةً كيفيةً وكميَّةً، وإنَّ من جملة ما أكّدَ عليه منهاجُ القرآن الكريم هو ضرورة تعاطي الأفراد في حياتهم مع الآخرين ثقافةً وتلقيًا وتفاعلًا تعاطيًا عقلانيًّا وشرعيًّا معتدلًا والابتعاد عن السلوكيات الانفعاليّة في الأخذ والقبول أو التنميط والتأثّر. وهذا الوعي إنّما يتأتى من إشعارهم بأنّ العقلانيّة والشرعيّة والاعتدال هي السُبل الوحيدة لحل الاشكاليات أيّاً كانت، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } (الزمر 18) ويتحقق ذلك الوعي الكيفي والكمي بتربية الأفراد على ممارسة التفكير السليم والحكيم نظريًّا وعمليًّا برصد المقدمات و النتائج والعواقب، لذا روي عن الرسول الأكرم مُحمّد (صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (إذا هممتَ بأمرٍ فتدبر عاقبته) (١) وعن الإمام جعفر الصادق ، عليه السلام ، أنّه قال ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة - وقرأ بعد هذا الحديث قوله تعالى (إنما يتذكر أولوا الألباب)) (٢). وتتجلى ممارسة التفكير هذه في صورة مراجعة الفرد نفسه بشكل دائم واخضاع سلوكياته للتقييم المعياري السليم وفق قيم التقوى والفضيلة والدين الحقّ والعقل القويم . وهذه المراجعة التقييميّة والتقويميّة تتطلّب في حراكها الهادف والناجح والصالح تنظيم الوقت وتوزيعه بحسب نظام الواجبات والضروريّات والأولويّات والأهميّات وعدم هدره في الخوض الفوضوي وغير الضروري، وأيضًا في إطار ذلك ينبغي تصنيف استعمال هذه التقنيات الرقميّة الحديثة وفق ملاك الأهم عقلًا وشرعًا وحاجةً ومنهجًا. 4- هناك ما يُسمّى عقلاً بضرورة التبيّن والفحص قبل التلقي والقبول لكلّ ما يُلقى علينا من نشر أو فكر أو ثقافة أن مبادئ أو شُبهات وإشكالات -ينبغي إعمالها ثقافةً وسلوكًا في نمطيّة التعاطي مع وسائل التكنولوجيا الحديثة واخضاع كلّ وافد ثقافي أو فكري أو سلوكي لمناط الوثوق والصدق والحقانيّة والشرعيّة والأخلاقيّة- لا أن يكون المُتلقي وعاءً فارغًا تتمكن من حشوه أي وسيلة إعلاميّة معاصرة وتقوده حيث تشاء وتهدف. ____________________ ١- بحار الأنوار، المجلسي، ج71 ، ص339. ٢- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص183.
اخرىبقلم: رضا الله غايتي البداء لغة: الظهور بعد الخفاء، أي تغيّر العزم وتبدّله بسبب ظهور أمرٍ كان خافيًا، فيكون منشأ تبدل العزم وتغيره هو الجهل بما كان خافيًا من جهةٍ ومنطلقًا من الندامة من جهةٍ أخرى. والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله سبحانه لاستلزامه حدوث علمه بشيء بعد جهله به. وإنما أطلق هذا اللفظ من باب المشاكلة في التسمية ليس إلا. كنسبة الكيد إليه سبحانه في: "إنَّهمْ يَكيدونَ كَيْداً وَأَكيد كَيْداً" (الطارق15و16) وقد وقع مخالفوا أهل البيت (عليهم السلام) في خطأ لطالما وقعوا به في المسائل الخلافية وهو عدم تحريرهم لمحل النزاع. فهم نسبوا إلى الامامية الاعتقاد بالبداء بمعناه اللغوي المتقدم، على حين أن الامامية تنزِّه الله (جل وعلا) عن هذا المعنى وتعتقد بالبداء بمعناه الاصطلاحي. وهو تغيير مصير الإنسان وما قُدِرَ له بسبب قيامه بأعمال صالحة أو طالحة. قال تعالى: "يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" (الرعد 39) ولمزيدٍ من التوضيح نقول: ينقسم القضاء من حيث إمكانية التغيّر فيه والتبدّل إلى قسمين هما: الأول: قضاءٌ محتوم في أم الكتاب ولا يقع فيه البداء. الثاني: قضاءٌ مشروط، ويتحقق بشرط توفر مقتضياته وانتفاء موانعه كمشيئته أنَّ تناول السم المميت يؤدي إلى الموت فيما لو لم يُتبع بتناول ترياق يبطل مفعول ذلك السم. فإن تناولَ شخصٌ ما ذلك السم فقد انطبق عليه القضاء المشروط وهو موته، فإن تناول الترياق تغيّر القضاء إلى عدم موته. وتغيُّر القضاء هذا هو البداء، والقضاء الذي تغيّر هو من القضاء المشروط أو المعلّق. أما القضاء بعدم موته في المثال فهو من القضاء المحتوم الذي لا يرد ولا يبدل؛ لعلمه السابق سبحانه بتناوله الترياق بعد السم. فالبداء من الله تعالى يختص بما كان مشترطا في التقدير وليس هو الانتقال من عزم إلى عزمٍ آخر. وكلا القضاءين يقعان في دائرة العلم الإلهي، بيدَ أنّ العلم بأولهما هو العلم الذاتي المقدس عن التغيّر وهو محيطٌ بكل شيء وكل شيء حاضرٌ عنده بذاته. وثانيهما مرتبةٌ من مراتب علمه الفعلي ومظهر من مظاهره. وعليه فإذا قيل بدا لله في علمه فمرادهم البداء في هذا المظهر (1). وبناءً على ذلك فالاعتقاد بالبداء بمعناه الاصطلاحي لا يؤدي إلى نسبة الجهل إليه سبحانه ـ كما يزعم البعض ـ والعياذ بالله؛ ولذا روي عن الامام الصادق (عليه السلام): "من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شيء اليوم لم يعلمه أمس فابرؤوا منه" (2). وعنه (عليه السلام): "فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل" (3) ومن الغريب حقاً أنهم يعتقدون بالنسخ في التشريع ولا يعترضون عليه ولا يجدون به ضيرًا بينما يعترضون على الاعتقاد بالبداء اعتراضًا شديدًا، مع أن منزلة البداء في التكوين كمنزلة النسخ في التشريع! ولا يقتصر الاعتقاد بالبداء على تنزيهه جل وعلا من الجهل فحسب، بل هو اعترافٌ صريحٌ بأنَّ العالمَ تحت سلطانه وقدرته في حدوثه وبقائه، وإنّ إرادته نافذةٌ في الأشياء أزلاً وأبداً. وبالتالي فهو تنزيهٌ له عن العجز أيضاً؛ لأن الاعتقاد بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة يستلزم نسبة العجز إليه سبحانه. وقد لعن الله اليهود لقولهم بذلك فقال: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" (المائدة64) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)انظر الإلهيات ص583 (2)كمال الدين ص70 (3)تفسير العياشي 3: 218/71
العقائدبقلم: مرتضى علي الحلي - إنَّ ظاهرة البيوتكنولوجيّا -ونعني بها استعمال التطبيقات الرقميّة الحديثة وتوظيفها في الإطار الإيديولوجي السلبي- هي الظاهرة الأقوى فتكًا وخرقاً للمنظومات الاعتقاديّة والفكريّة والثقافيّة والسلوكيّة والقيميّة والتربويّة والأخلاقيّة والأمنيّة في المُجتمع، أفرادًا وأسرًا ومجموعاتٍ ومؤسساتٍ. ومن خلالها تُدار الحرب الناعمة والكلاميّة والباردة التي تستهدف الشباب والعقول وعمليات اختطاف الوعي من المُتلقّين، وسوقهم وفق إيديولوجيا رقميّة خطيرة جدًّا تشتمل على كل ما يخالف المُرتكزات الفطرية والاجتماعية القويمة والدينيّة المستقيمة أفرادًا وجماعاتٍ. ولقد تمكّنت هذه الظاهرة الجديدة مؤخّرًا من نشر أفكارها وإعادة إنتاج المقولات القديمة في جدلها وأغراضها كمقولة الإلحاد والعلمانيّة والوجوديّة والإباحيّة والفوضى الخلاّقة ومحوريّة الإنسان في الوجود أصالةً وقبل كلّ شيء واتّخاذه منطلقاً لكلّ فكرة. والاعتقاد بأنّ الإِنسان أقدم شيء في الوجود وما قبله كان عدمًا. واعتبار أنّ الأديان والنظريات الفلسفيّة التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة لم تحل مُشكلة الإِنسان، ممّا يتطّلب ذلك إلغاء الدين وتهميشه في واقع الحياة. وعليه تعمل هذه المنظومة الفكريّة من خلال أدواتها البيوتكنولوجيّة على إعادة الاعتبار الكلي للإنسان ومُراعاة تفكيره الشخصي وحريته وغرائزه ومشاعره دون أي اهتمام بمعايير الدين والأخلاق والعرف المقبول. - وهي تسعى لترسيخ حرية الإِنسان المُطلقة والمُنفلتة، وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد دون أن يُقيّده شيء. - وتوجّه هذه الظاهرة المُنظّمَة الإِنسانَ بأن يطرح الماضي وينكر كلّ القيود، دينيّةً كانت أم اجتماعيّةً أم فلسفيّة أم منطقيّةً. - فلا إيمان بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه، وإنّما كلّ إنسانٍ يفعل ما يريد - وليس لأحد أن يفرض قيماً أو أخلاقاً مُعيّنة على الآخرين. - وهنا بيت القصيد - فإذن بمَ يتقيّد الإنسان؟ - وقد رُصدت آثار هذه الظاهرة في وجهها السلبي بأرقام كبيرة ومُخيفة في واقع المجتمع العراقي من حيث انتشار تلقي مقولة الإلحاد وفق دوافع نفسيّة ارتداديّة غير صحيحة وغير مقبولة عقلًا وشرعًا. وتزايد حالات التسقيط الاعتباري والاجتماعي والمعنوي للشخصيات والجهات والأفكار والاعتقادات وجملة من القيم والاعتبارات الدينية والعرفية. وكذلك تفشي أسرار مؤسسات الدولة الأمنيّة والإداريّة والاقتصاديّة والعسكريّة وغيرها. فضلًا عن إسهامها في تغيير طبيعة الشخصيّة الفردية سلوكًا وقرارًا وأخلاقًا -ممّا أنتج تصاعداً بنسبة كبيرة جدًا في حالات الطلاق وتفكك الأسر وتشرّد الأطفال وعقوق الآباء والأمهات- وتأنّث بعض الشباب. وتضييع الاوقات وهدر الطاقات وبروز التلهي بالألعاب لحد الإدمان، بحيث انخفض مستوى نسب النجاح والتعليم في العراق وبكافة المراحل الدراسيّة، وأصبحت منظومة الأخلاق والسلوك في معرض الخطر الوشيك والتصدّع الكبير.
اخرىبقلم: علوية الحسيني تزامنًا مع يوم عرفة المبارك ثارت عدّة شبهات حول بعض الروايات الواردة في كتب الشيعة، الدالّة على فضل زائـر الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم، وأفضليته على زائـر بيت الله الحرام. وبعضهم أخذ يقارن بين زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وزيارة بيت الله الحرام، من حيث المثوبة والتفضيل، متغافلاً وجود روايات في كتبه تقول بفضيلة أعمالٍ عبادية تفوق فضيلة زيارة بيت الله الحرام! ولتوضيح تلك الروايات والإشكالات الواردة عليها، والجواب عنها، ينعقد الكلام ضمن المطالب التالية: ■المطلب الأول: رواياتٌ في فضل زائر الإمام الحسين (عليه السلام): نعلم جميعًا أنّ الروايات من حيث السند منها الصحيحة، والحسنة، والموثقة، والضعيفة، وعلى الرغم من ضعف سـند بعض الروايات محل كلامنا إلاّ أنّ بعضها صحيح السند، على أن التشدد السندي لا يؤخذ به في كل مجال؛ فهناك مجالات يتم التساهل سنديًا فيها كالأمور التاريخيّة، والمستحبات التي تجري فيها قاعدة التسامح في أدلّة السنن مثلًا. وعلى ذلك، فلابأس للمكلّف أن يأتي بها بنيّة رجاء المطلوبيّة، ويأمل أن يكون الشارع المقدّس مريدًا لها، فينال مثوبةً وأجرًا على عمله. ومن تلك الروايات الواردة في كتبنا المبينة لفضل زائر الإمام الحسين (عليه السلام): 1- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في ثواب من زار الحسين (عليه السلام): "من أتاه في يوم عرفة عارفا بحقه، كتب له ألف حجة، وألف عمرة مقبولة، وألف غزوة مع نبي مرسل أو امام عادل" (1). فظاهر الرواية لم تحدد أي حجٍ تعادله تلك الزيارة، إلاّ أنّه ينصرف المعنى إلى الحج المستحب؛ لأنّنا نؤمن أنّ الحج مع توفر شرائطه يكون فرضًا واجبًا بالكتاب والسنة القطعية، وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مستحبة على المشهور، فعند تعارض القول بأفضليتهما يقدّم الواجب على المستحب، لكن ظاهر مقصود الإمام (عليه السلام) أنّه يقصد الحج المستحب؛ إذ إنّ المعصوم لا ينافي كلامه دليلًا قطعيًا. 2- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "إن الله عز وجل يـبدأ بالنظر إلى زوار قبر الـحسين بن علي (عليه السلام) عشية عرفـة، قال: قلت: قـبل نظره إلى أهل الموقف [أي عرفات]؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأن في أولئك أولاد زنى وليس في هؤلاء أولاد الزنا" (2). فظاهر الرواية تشير إلى كيفية جعل الإمام الصادق (عليه السلام) أهل مكة أبعد من أهل كربلاء؛ بالإشارة لهم باسم الإشارة (أولئك) الذي يستعمل للبعيد، وأشار إلى زوار الإمام الحسين (عليه السلام) باسم الإشارة للقريب (هؤلاء). وحتمًا أنّ من أنكر فضيلة الأئمة (عليهم السلام) فهو غير طاهر المولد، أو منافق، قال العلامة القندوزي (3): "قال أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) رفعه: من لم يعرف حق علي فهو أحد من الثلاث: إمّا أمُّهُ الزانية، أو حملته أمُّه من غير طهر أو منافق" (4). إذًا المبغض المنكر فضائل عليّ (عليه السلام) لابد أن يكون من أحد الأقسام الثلاثة، ولاسيما سائر الأئمة (عليهم السلام)، ويستكثر تمييز الله تعالى للإمام الحسين (عليه السلام) ولزائريه العارفين بحقه. 3- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "من زار الحسين (عليه السلام) يوم عرفة عارفًا بحقه، كتب الله له ألف حجّــة مقبولة، وألف عـمرة مبرورة" (3). فنجد أنّ الرواية هنا قيّدت الزيارة بعرفان حق الإمام الحسين (عليه السلام)، ثم أعطته ثواب الحج والعمرة -المستحبين- بذلك العدد. ■المطلب الثاني: مناقشة الروايات: اثيرت بعض الأسئلة على تلك الروايات، نتيجة الوقوف على ظواهر الروايات، أو التغافل عن وجود مثيلها في كتبهم، أو لتفاقم الحقد الدفين على آل محمد (عليهم السلام) لما لهم من منازل رفيعة عند الله تعالى، ومن تلك الأسئلة: السؤال الأول: هل من عدل الله تعالى أن يفضّـل زائر أحبّ أوليائه (عليهم السلام) علــى زائر بيته الحرام الذي ترك المال والأهل والولد ليلّبي نداء التلبية ويؤدي أحد أركان الإسلام الواجبة عليه، بنظر الله تعالى وشموله بالرحمة للزائر الأول قبل الأخير؟! والجواب عليه: أولاً: نقضًا: وهل من عدالـة الله أن يجعل مجـرد صلاة الغداة جماعة والاشتغال بعدها بذكر الله تعالى حتـى طلوع الشمس وتعقيبها بـركعتين تعادل بأجـرها حـجّة وعمـرة –كما يقول الترمذي-؟! والألباني يؤيّـد كلام الترمذيّ في حديثٍ صحيح في (صحيح الجامع الصغير)! عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: "من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة، قال: قال: رسول الله (صلى الله عليه {وآله} وسلم) تامة تامة تامة" (5). فإذا كان اللهُ تعالى عـادلًا كما يقول الترمذيّ والألبانيّ بـجعل صلاة ركعتين تعادل أجـر الحجّـة والعـمرة، فـهو سبحانه عـادلٌ كما قال أئمتنا (عليهم السلام) بجعل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) تـعادل الحـجّة والعـمرة المستحبتان. ونسألهم: هل مَن يصلي مجرد ركعتين يُـقارن بالمثوبة بالذي ترك الأهل والمال والولد ليلبـي نداء الله بزيارة بيته الحرام؟!! فجوابكم جوابنا. ثانيًا: الجوابُ الحلـيّ أنّ السؤال المطروح يوافق مقاييسنا الماديّة نحن البشر، أمّا في المقاييس الالهيّة فلا دخل لذلك في عِظَم الثواب؛ وإلاّ فما بالنـا في نزول سورة الدهر لأجل تخليد صدقة بـكسرة خبز؟! السؤال الثاني: هل إنّ الحسين (عليه السلام) أعـظم منزلةً من الكعـبة حتى جعل الله تعالى مثوبـة زوّاره تفوق مـثوبة زائري بيته الحرام؟ والـجواب عليه: أولاً: نقضًا: إنّ المـسلم أعظم درجةً من الكـعبة، وهذا ما جاءت به كتب القوم أيضًا؛ كالحديث الذي ذكره البيهقي في شعب الإيمان قال: "أخبرنا أبو القاسم بن حبيب... عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق" (6). وروي بلفظ : لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل مسلم. قال السخاوي: لم أقف عليه بهذا اللفظ ولكن روي معناه عند الطبراني. وله روايات كثيرة يعضد بعضها بعضا فترتقي به إلى درجة الصحيح لغيره، ومن ذلك ما رواه النسائي من حديث بريدة مرفوعًا: قدر المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا. وابن ماجه من حديث البراء مرفوعًا: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق. فلماذا لا تستنكرون تفضيل مسلمٍ عاديّ لــم يذهب الله تعالى عنه الرجس على الــكعبة المشرّفة وتستنكرون تفضيـل ريحانة الرسول وقرّة عين البتول، المطهّر من الرجس، الذاهب عنه الدنس، الحسين بن عليّ (عليه السلام) ؟! ثانيًا: الـجوابُ الحـلّي هنالك روايات في كتبنا نهت عن إيذاء المؤمن مطلقًا، منها: "عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي"(7). و رواية اخرى "عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الصدود لأوليائي، فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم ثم يؤمر بهم إلى جهنم"(8). فإذا كانت عظمة المؤمن العادي بهذه الدرجة، فكيف بعظمة وليّ الله الإمام الحسين (عليه السلام) بإعطائه فضيلة فوق زيارته للحج والعمرة المستحبان! والخلاصة: أنّ الروايات التي تفيد بيان أفضلية زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المستحبة على الحج الواجب ضعيفة سندًا لا يمكن الأخذ بها، كما أخذ بها أعداء المذهب مشنعين فرحين، وأمّا من لم يقل من علمائنا بضعفها فيؤولها إلى أفضلية الزيارة على الحج المستحب. ■المطلب الثالث: تشريف كربلاء على مكة المكرمة. من الممكن القول بشرافة كربلاء المقدسة على مكّة المكرمة من خلال عدّة وجوه، منها: *الوجه الأول: القرآن الكريم: 1- قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} (9). 2- وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا} (10). ففي الآية الأولى أمر الله تعالى إسماعيل وإبراهيم (عليهما السلام) بـــتطهير بيته الحرام من الأوثان، وفي الآية الثانية الله تعالى بــنفسه طهّــر أهل البيت (عليهم السلام) من الرجس، ومن ضمنهم الإمام الحسين (عليه السلام). ومن ذلك تتبيّــن قداسة الإمام الحُسيـن (عليه السلام)، ودرجة تفضيله على مكّة المكرّمة التي هي بيته الحرام. *الوجه الثانـي: إنّ تراب قبـر الإمام الحسين (عليه السلام) نزل به جبرائيل من السماء، طبقًا لروايات وردت في كتب الفريقين، منها: 1- ما حدّث به عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة، أو أم سلمة قال: "أن النبي (ص[صلى الله عليه وآله]) قال: لأحدهما: لقد دخل علي البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول فإن شئت آتيك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال : فأخرج إلي تربة حمراء" (11). 2- وعن عائشة، أو أم سلمة: "أن رسول الله (ص [صلى الله عليه وآله]) قال لها: لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال: إن حسينًا مقتول، وإن شئت أريتك التربة .... الحديث" (12). إذًا من ينكر فضل تربة كربلاء عليه أن يكذِّب ما جاءت به عائشة أو أم سلمة. ولا أخالهم يجرؤون. فتربة كربلاء مصدرها سماوي، حيث هبط بها ملك –جبرائيل (عليه السلام)، بينما تربة مكة المكرمة مصدرها أرضي. 3- وروي في كتبنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: "خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدمة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أوليائه في الجنة" (13). 4- عن محمد بن سنان عن أبي سعيد القماط قال: حدثني عبد الله بن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لرجل من مواليه: "يا فلان أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام)؟ - الى أن يقول - ويحك أما تعلم أنَّ الله اتخذ كربلاء حرماً آمنا مباركاً قبل أن يتخذ مكة حرما..." (14). وهناك روايات يظهر منها أفضلية مكة على غيرها من البقاع، ففي (الفقيه) عن سنان عن سعيد بن عبد الله الأعرج عن ابي عبد الله (عليه السلام): قال: (أحب الأرض الى الله مكـــة وما تربة أحب الى الله من تربتها ولا حجر أحب الى الله من حجرها ولا جبل أحب الى الله من جبلها ولا ماء أحب الى الله من مائها). ويختلف العلماء بناءً للاختلاف في الروايتين في أيتهما الأفضل، فذهب البعض الى أفضلية مكــة، والبعض الآخر الى أفضلية كـــربلاء، ويذهب البعض الى أفضلية مكة على سائر البقاع عدا قبور النبي والائمة (عليهم السلام)" (15). يقول الشهيد الأول: "مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وروي في كربلاء على ساكنيها السلام مرجحات، والأقرب أن مواضع قبور الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كذلك، أما البلدان التي هم فيها فمكة أفضل منها حتى من المدينة" (16). وعلى كلّ حال فإنّ قداسة أرض كربلاء وأفضليتها نتاج تشرفها بضم جسد خامس أصحاب الكساء، سيد الشهداء، الإمام الحسين (عليه السلام)، والأجساد الطاهرة من شهداء الطف، والمكان يقتبس قداسته وشرفه مما يحتويه، وبقدر ما له من صلة وعلاقة بالله تبارك وتعالى، وفي كربلاء قبر [ثار الله]، وقبلة قلوب المؤمنين، ومصباح الهدى، وسفينة النجاة، ووجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء، ومن لا تقبل الأعمال إلاّ بولايته، والانقياد لله تعالى بطاعته، والاقتداء به، والسير على هديه، به تقدّست كربلاء وشُرِّفت، فكان لـــها الحق في الفخر والشموخ على أرض مكة المكرمة. ________________ (1) ثواب الأعمال: للشيخ الصدوق، ص115، الأمالي: للشيخ الصدوق، ص143. وأورده الشيخ الطوسي في أماليه، ج1، ص204. (2)ثواب الأعمال: للشيخ الصدوق، ص90. معاني الأخبار: للشيخ الصدوق، ص391. البحار: للعلامة المجلسي، ج98، ص85. كامل الزيارات: لجعفر بن محمد بن قولويه، ص317. تهذيب الأحكام: للشيخ الطوسي ،ج6، ص50. من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق، ج2، ص580. وسائل الشيعة: للحر العاملي، ج10، ص361. مستدرك الوسائل: للميرزا حسين النوري الطبرسي، ج10، ص282. (3) ينابيع المودة: للقندوزي، ص252. (4) رواه المولى محمد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية، ص203. (5) سنن الترمذي: لأبو عيسى الترمذي، ص150، ح586. (6) أخرجه: النسائي، 7/82. وفي الكبرى له، 3448 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (7) وسائل الشيعة: للحر العاملي، ج،8 ص588. (8) المصدر نفسه، ص587. (9) البقرة: 125. (10) الأحزاب: 33. (11) مسند أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل،ج2، ص770، ح 1357. (12) سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي، ج3، ص290. (13) كامل الزيارات: لمحمّد بن قولويه القمي البغدادي، ص444. (14) المصدر نفسه، ص449. (15) مركز الأبحاث العقائدية. (16) الدروس ج1 ص470. أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى السَّيِّدِ الزَّاهِدِ، وَالْإِمامِ الْعابِدِ، اَلرَّاكِعِ السَّاجِدِ، قَتيلِ الْكافِرِ الْجاحِدِ، صاحِبِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلآءِ، اَلْمَدْفُونِ بِأَرْضِ كَرْبَلآءَ، مَوْلَى الثَّقَلَيْنِ، أَبي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْن.
المناسبات الدينيةبقلم: كاردينيا ياس اليوم..انتَ تنظر الى التاريخ.... من وراء شاشة تلفازك... من وراء شاشة جهازك... فترى و تقرأ و تسمع... ما ينبئك ان ركب الحسين عليه السلام .. قافلة الحسين عليه السلام ... رسالة الحسين عليه السلام .... اهداف الحسين عليه السلام .... خرجت من مكة صوبَ كربلاء.. فَتُثار مشاعرك َ وقد تصب دموعك على وجنتيك... لكن... بالله عليك ، قل لي ..بعد هذا ماذا حصل؟ اوجدت نفسكَ معه سائرا ً بقلبك؟ ام لبثت َ حيث انت؟ قافلة طلب الاصلاح لم يزل..مسيرها...للآن.. و امام زمانك َ "عجّل الله تعالى فرجه" ...يرتقب الحركة منك لا مجرد الخطوة ! اَ تود ان تأنس بصحبة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ اَ تود ان تتربى على يدي بطل العلقمي ؟ اَ تود ان تتعلم دروس الثبات من فخر المخدرات؟ الطريق امامك مشرعة...قم من فوركَ و ليقلها كلّك لا فقط لسانك : لبيكَ يا طالب الاصلاح.... وان وجدت نفسكَ لا تمنحك عزما لذلك ..بحجة انك لست مؤهلاً ... وانّى لكَ بنصرته ِ وانت َ تذنب و تستغفر باليوم مرات و مرات. لاتدعها تكمل ..قاطعها مستدركاً : انا اعلم اني لست مؤهلاً ، ولكن .. اِن مددت يدي لله و قلت له اصلحني لاكون مؤهلا ً لركب ناصر ِ دينكَ و مبلغ رسالاتك... هل ياترى سيتركني ..! ربي و الهي و سيدي و مولاي الذي انعم علي ّ وانا بذنوبي غارقٌ.. او َ يتركني وانا بساحةِ توبتهِ ام لايهديني الى رشدٍ اصل بهِ الى نقطة التقاءٍ بقافلة الحسين عليه السلام ؟
اخرىبقلم: علوية الحسيني إنّ الاعتقاد بأنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) حيٌّ أمرٌ مفروغ منه في عقيدتنا والدليل عليه جزمي! وبالتالي يثبت له جميع ما يثبت للأحياء -وإن كان غائبًا عن ان نعرفه، لحكمةٍ إلهية- فله ما لنا من حقوق, وعليه ما علينا من التزامات, مع فارقٍ جوهري في الأفضلية له, كونه أتقى وأنقى وأشرف وأكمل من سائر العباد اليوم؛ فعقيدتا في الأئمة "أنَّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته"(1). وعليه ينعقد الكلام حول هذا الموضوع ضمن النقاط التالية: ■النقطة الأولى: الحجُ مفروضٌ على جميع العباد ومنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف): من الالتزامات المفروضة على العباد هو الحج, ذلك الفرض الثابت في الكتاب والسنة القطعية, ولا يخفى أنّه أحد فروع الدّين, فأوجبه الله تعالى على عباده جميعًا حال توفر شرائطه؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}(2). فظهور الآية الكريمة واضح في وجوب الحج على المستطيع, ولا قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب, بل نجد أنّه تعالى ذيّل الآية نفسها بأن التدارك للحج كافر. وبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) نفرٌ من الناس – وهذه عقيدتنا به كما أسلفنا، واختلفنا عن الغلاة- فيجب عليه الحج مع توفر الشرائط. كما وأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) روي عنه تأكيده على هذه الفريضة المقدسة, ناعتًا تاركها باليهودي أو النصراني؛ روي "عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانيا" (3). إذًا فلا يمكننا القول بأنّه (عجّل الله فرجه الشريف) يكفر بالحج, ولم يذهب إليه -مع فرض تحقق الاستطاعة-, أو أنّه طيلة حياته لم يحج بيت الله الحرام, بزعم كونه غائبًا؛ إذ هذا مدفوع بأمور عديدة, منها: تفضيل الله تعالى له "كإمام منصًّب إلهيًا, مفترض الطاعة"(4)، ومنها: إنّ عقيدتنا بالأئمة (عليهم السلام) عمومًا أنّهم "في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم، والتقوى، والشجاعة، والكرم، والعفّة، وجميع الاَخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به"(5), فإذا كانوا لا يدانيهم بشر في طاعة الله تعالى ومكارم الأخلاق, فكيف يمكن فرض احتمال كفر أحدهم بفرعٍ من فروع الدّين؟! ■النقطة الثانية: كيفية الجمع بين حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) وغًيبته: إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروضٌ عليه الحج -مع توفر شروط الحج- كسائر التكاليف الشرعية, فيجب عليه تأديته, وهذا كافٍ للرد على من آمن بالغَيبة على أنّها انزواء الإمام في بقعة من بقاع الأرض. بل، ولو سلّمنا جدلاً بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) منزوٍ في أرض مكة المكرمة, فمجرّد أدائه لمناسك الحج ينافي المعنى اللغوي للانزواء, سواء أكان الانزواء بمعنى الاعتزال عن الناس, أو كان بمعنى اللبث في زاوية مكانٍ معيّن. *فأمّا الأول فمدفوع بما رواه الشيخ الصدوق, والشيخ الطوسي, عن محمد بن عثمان العمري، أنّه قال: "واللهِ إنّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه"(6), ففي الحديث دلالة على اختلاط الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) بالناس, ودحض شبهة اعتزاله. *وأما الثاني فمدفوع بما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "في القائم سُنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فأمّا سنّة موسى فخائف يترقّب، وأمّا سنّة يوسف فإن اخوته كانوا يُبايعونه ويُخاطبونه ولا يعرفونه..."(7), ففي الحديث دلالة عرفية تفيد أنّ الخائف المترقب متنقل بين مكانٍ وآخر؛ خوفًا من عثور أعدائه عليه, والتنقل غير اللبث في مكانٍ معيّن, فدحضت شبهة الانزواء. ومن هذا نستنتج وجوب تنقله (عجّل الله فرجه الشريف) في بقاع الأرض, وعلى فرض تنقله فإنّه يؤدي ما عليه من واجبات إلهية, ومنها فريضة الحج. يذكر إنّ حضور الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) في موسم الحج في زمن غيبته هو أحد انجازاته قبل ظهوره المعلن, وحضوره ذلك يكون طبيعيًّا, لا يحتاج إلى اعجازٍ, نعم لا يضر اثبات حضوره الحج عدم معرفته, بعد أن أثبتنا وجوب تنقله في بقاع الأرض "روى الصدوق, عن عبيد بن زرارة, قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول: يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه"(8). ■النقطة الثالثة: شخص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) تحت ضوء شرائط الحج: للحج شرائط لابد من توفرها(9) حتى يكون منجّزًا في ذمة المكلّف, فعلى فرض توفرها في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ووجوب الحج عليه نسردها مع بعض التفاصيل: 1- البلوغ إنّ الكلام في بلوغ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغٌ منه, إذ يذكر لنا التاريخ أنّه عجل الله تعالى فرجه ولد سنة 255 للهجرة. 2/ العقل كما إنّ الكلام في سلامة عقل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) من الجنون بكافة أقسامه نافلة من القول؛ فعقيدتنا في الأئمة أن يكونوا متصفين بأكمل الصفات الخلقية والعقلية؛ حتى توجب التفاف الناس حولهم, ومن ثم التمكن من هدايتهم. 3- الحرية وأيضًا الكلام في حرية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغ منه؛ إذ ليس من صفات الأئمة (عليهم السلام) أن يكونوا عبيدًا لغيرهم, ثم يعتقون حتى يصبحوا أحرارا, بل هم أحرار أسياد. 4- الاستطاعة ويعتبر في هذا الشرط أمور، منها: الأول: السعة في الوقت أي أن يسع الوقت للذهاب إلى بيت الله الحرام من مسكن الحاج فيستطيع أن يصل في الوقت المناسب, وهذا شرط من السهل توافره في حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ كيف لا, والأرض تطوى له فيصل إلى أي بقعة من بقاع الأرض متى ما شاء, بإذن الله القادر المختار؛ روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "القائم منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله عزوجل به دينه ولو كره المشركون..."(10), فالرواية وإن كان ظاهرها يتكلم عن زمن الظهور, إلاّ أنّه لا يستبعد ثبوت طي الأرض للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في زمن غيبته, وذلك يرجع إلى قدرة الله تعالى الواسعة. إذًا بمجرد طي الأرض له (عجّل الله فرجه الشريف) يصل إلى مكة المكرمة, ويؤدي حجّه, هذا على فرض وجود الإمام في أرضٍ غير أرض مكة, وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "لَيْتَ شِعْري اَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى، بَلْ اَيُّ اَرْض تُقِلُّكَ اَوْ ثَرى؟". وأما على فرض وجوده في أرض مكة فمن بابٍ أولى أنّه سيكون له سعة من الوقت للوصول إلى الحرم المكي وأداء مناسك حجّه. وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "اَ بِرَضْوى اَوْ غَيْرِها اَمْ ذي طُوى؟" رضوى: "هو جبل على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة" (11). "ميامنه طريق مكة ومياسره طريق البريراء لمن كان مصعدا الى مكة"(12). أمّا ذو طوى: "فهو موضع بمكة المكرمة داخل الحرم هو من مكة على نحو من فرسخ ترى بيوت مكة منه، قال في (المصباح) ويعرف بالزاهر في طريق التنعيم، وفي (القاموس) ذي طوى، موضع قرب مكة"(13). الثاني: صحّة البدن وقوّته أي أنّ الحاج يجب أن لا يكون سقيمًا, هزيلاً, فيمتنع عليه أداء مناسك الحج, وهذا شرط من المفروغ ثبوته في جسد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) " قال أبو عبد الله عليه السلام: القوة القائم عليه السلام والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر"(14). الثالث: تخلية السرب ويقصد بها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً، فلا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى الأراضي المقدّسة، وكذا لا يكون خطراً على النفس أو المال أو العرض، وإلاّ لم يجب الحجّ . والإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لا موانع تقف بينه وبين حضوره لأي مكان؛ وفقًا للمشيئة والقدرة الإلهية. الرابع: النفقة، ويعبّر عنها بالزاد والراحلة ويقصد بالزاد: كلّ ما يحتاج إليه في سفره من المأكول والمشروب وغيرهما من ضروريات ذلك السفر، ويراد بالراحلة: الوسيلة النقليّة التي يستعان بها في قطع المسافة، ويعتبر فيهما أن يكونا ممّا يليق بحال المكلّف. فأما زاد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) فلم تنص عليه الروايات, إلاّ أننا ممكن أن نثبته من خلال القول بأنّه راجع إلى اعتقادنا في الأئمة (عليهم السلام) بأنّهم بشرٌ مثلنا يجوعون ويعطشون, فيكون من البديهي توفره. وأمّا راحلته فغيب, كلّ ما علينا هو الإيمان بتوفرها مهما كان نوعها. الخامس: الرجوع إلى الكفاية، وهو التمكن بالفعل أو بالقوّة من إعاشة نفسه وعائلته بعد الرجوع إذا خرج إلى الحجّ وصرف ما عنده في نفقته، بحيث لا يحتاج إلى التكفّف ولا يقع في الشدّة والحرج. وهذا الشرط منوط بالعلم الغيبي؛ وإذا تكفّل الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) فليس لدينا سوى الإيمان بمجمل الأمر, دون الخوض في تفاصيله, مع الانتباه إلى أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لا دليل جزميا على انه متزوج حتى يشمله الشرط بحذافيره –من المأمن على مصرف عيال الحاج-. ومع احتمال عمل الإمام وتكسبه للمعيشة يتحقق هذا الشرط؛ استنادًا إلى سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بتكسبهم للمعيشة, وليس عملهم انتقاصًا من مكانتهم؛ إذ فيهم الراعي للأغنام, والحداد, والنجار, وما شابه ذلك من المهن. ■النقطة الرابعة: سؤالٌ وجواب: قد يطرح البعض سؤالاً مفاده: إذا كان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) قد حجّ الحج الواجب عند توفر الشرائط, فلماذا يشهد موسم الحج كلّ عام؟ وجوابه: هنالك روايتان تنصان على تواجد الامام سابقا في الكعبة دون التصريح بأنّ وجوده هناك كان للحج الواجب, كما "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سألت محمد بن عثمان العمري، فقلت له: أرأيتَ صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجِزْ لي ما وعدتَني"(15)، فدعاء الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) عند بيت الله الحرام لا يخلو من احتمال وجوده لأداء الحج الواجب. ورواية اخرى بنفس المفاد إلاّ أنّ المسموع من دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) هو دعاء آخر, وعند ركنٍ محدد, "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سمعتُ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه يقول: رأيتُه صلوات الله عليه متعلّقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: اللهم انتقِم لي من أعدائي".(16)، وعلى فرض تعدد مرات رؤيته عند بيت الله الحرام تنبثق احتمالية أدائه (عجّل الله فرجه الشريف) لفريضة الحج الواجب في أحدها. وفي مقام الجواب عن سبب شهوده موسم الحج كلّ عام مع فرض أدئه للحج الواجب في سنة من سنوات غيبته (عجّل الله فرجه الشريف) نحتمل عدّة أقوال: 1- إنّ الحج يجب على المكلف مرّة واحدة, وإذا تكرر أداء المناسك من الحاج في مواسم اخرى فهذا أمرٌ مستحب, فيسمى حجّه مستحبًا, وبما أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أكمل العباد مطلقًا, وأداء المستحب من الكمال, فينبغي للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الرشيف) أن يفعل المستحب, فيحجّ الحج المستحب, ويشهد الموسم كلّ عام. 2- لا ينكر عاقل أنّ الإنسان إذا عاش بين الناس ومنهم ظالمي حقه, ويتمكن من أخذ حقه منهم, إلاّ أنّه يقف مكتوف الأيدي؛ إيمانًا بالمشيئة الإلهية التي لم تشأ بعد بإعلان ظهوره هو أمرٌ صعبٌ للغاية, يحتاج إلى صبرٍ خاص, فوجد الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) صابرًا على الغيبة, فمنحه كرامة الحضور في كلّ موسمٍ من مواسم الحج, التي تخفف على العبد البلايا والرزايا, وتجعل العبد يعيش حالة التسليم المطلق لما جرى عليه وما يجري وما سيجري. 3. على أن من الثابت استحباب تكرار الحج ما استطاع اليه المكلف سبيلا ___________________ (1) عقائد الامامية: للشيخ محمد رضا المظفر, ص85. (2) آل عمران: 97. (3) من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق, ج2, باب تسويف الحج, ح 2935. (4) ظ: حديث السلسلة الذهبية. (5) مصدر سابق, ص85. (6) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ج2, ص440, ح8. الغيبة: للشيخ للطوسي, ص221. (7) المصدر السابق, ج1, ص28. (8) المصدر السابق, ج2, ص440, ح7. (9) مناسك الحج وملحقاتها: للسيد السيستاني, ف1, شرائط وجوب حجة الإسلام. (10) إثبات الهداة: للحر العاملي, ج3, ص570, ب32, ف44, ح686. (11) معجم البلدان: لياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي,ج3, ص51. (12) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام. (13) مجمع البحرين: للشيخ فخرالدين الطريحي, ج3, ص97. (14) تفسير القمّي: لعلي بن إبراهيم القمي, ج 1, ص 336. (15) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ص440, ح9. (16) المصدر نفسه, ح10. اللّهمَّ إني أسألك أن تُريني وليَّ أمرك ظاهراً نافذاً لأمرك مع علمي بأنَّ لك السلطان والقدرة والبرهان والحجَّة والمشيئة والارادة والحول والقوة.
دراسات في الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)بقلم: العلوية شهد لا خلاف أن قضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه من القضايا المحورية التي شغلت الفكر الإسلامي بصورة عامة والفكر الشيعي بالتحديد لسنوات كثيرة وهي من أكثر القضايا التي تدور حولها التساؤلات وتعتريها الكثير من الابهامات. ولا شك أن أئمة أهل البيت لم يهملوا قضية مهمة ومصيرية مثل قضية مولانا الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فكلامهم هو البيان للحق وهو نور للضال كما جاء في الزيارة الجامعة للإمام الهادي (عليه السلام) (كلامُكم نور، وأمرُكم رُشد) فقد جاءت الأحاديث عن أحواله وصفاته وغيبته وظهوره ودولته كثيرة جدًا وقد تناول مولانا الإمام الباقر (عليه السلام) هذه القضية كما تناولها كل الأئمة (عليهم السلام) في نصوص وأحاديث كثيرة وردت في كتبنا المعتبرة توضح الأهمية التي أراد أن يعطيها إمامنا الباقر (عليه السلام) لهذه القضية المهمة، وإليكم البعض من المحاور التي تناولها الإمام (عليه السلام) في أحاديثه: _ بيان عظم مكانة المنتظرين في زمن الغيبة والأجر العظيم الذي ادخره تعالى لهم؛ لصبرهم على غياب إمامهم ووقوفهم بوجه فتن زمانهم، فعنه (عليه السلام) أنه قال: "من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا، أعطاه الله (عز وجل) أجر ألف شهيد من شهداء بدر وحنين". (١) _ بيان أنه عجل الله تعالى فرجه من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه من ولد علي وفاطمة (عليهم السلام) فعن أبي أيوب المخزومي قال: ذكر أبو جعفر محمد بن علي الباقر سير الخلفاء الاثني عشر (عليهم السلام) فلما بلغ أخرهم قال: الثاني عشر الذي يصلي عيسى بن مريم (عليه السلام) خلفه عليك بسنته والقرآن الكريم (٢) فقد ذكر (عليه السلام) الأئمة المعصومين ووصل الإمام المهدي بهم بيانًا لنسبه الشريف وأنه من نفس هذه الشجرة المباركة وأيضًا في هذا الباب جاء عنه: (أن القائم من ولد علي (عليه السلام) له غيبة كغيبة يوسف، ورجعة كرجعة عيسى بن مريم، ثم يظهر بعد غيبته مع طلوع النجم الأحمر،...). (٣) _صفات أصحابه (عليه السلام) ورد عنه (عليه السلام) "...فيجمع الله تعالى له قومًا، قزع كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون من أحد، ولا يفرحون بأحد يدخل فيهم، على عدة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأولون، ولا يدركهم الآخرون". (٤) وهنا وصف دقيق ولطيف للأصحاب حيث يصف فيهم جانب القوة التي تكون في وجه أعدائهم، وجانب اللين الذي يكون فيما بينهم. _كما أن له عليه السلام روايات في الحوادث التي تعاصر الظهور نذكر منها: يقول الإمام الباقر (عليه السلام): "ينزل القائم في سبع قباب من نور لا يعلم في أيها حين ينزل في ظهر الكوفة". (٥) وعنه (عليه السلام): "تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان إلى الكوفة، فإذا ظهر المهدي (عليه السلام) بعث إليه بالبيعة". (٦) _كما وجاء عنه (عليه السلام) في أهمية وجود الإمام (عليه السلام) حتى وإن كان غائبًا فدور الإمام في هذه الأرض كبير جدًا حتى في غيبته فقد ورد عنه (عليه السلام): "لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة، لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله". (٧) هذا غيض من فيض الأحاديث الواردة عن الإمام المهدي (عليه السلام) فالأحاديث عنه كثيرة سواء من الإمام الباقر (عليه السلام)، أو من بقية الأئمة (عليهم صلوات الله وسلامه) واصفين إياه داعين إلى نصرته وواصفين دولة الحق والقسط والعدل التي تنشأ على يديه الكريمتين. فهنيئاً لمن هيأ نفسه لذلك اليوم واستعد للنصرة والقتال تحت رايته الشريفة، جعلنا الله وإياكم من أنصاره وأعوانه المستشهدين بين يديه آمين رب العالمين. _____________ ١- إثبات الهداة ج3 ص467 ٢- كمال الدين : ص٣١۰ - ٣١١ ب٣٢ ح١٧ ٣- معجم أحاديث الإمام المهدي ج١ ص ٢٦٦ حديث ١٦٨ ٤- الإمام المهدي من المهد إلى الظهور ص ٤٠١ ٥- تفسير العياشي ج٣ ص ١٠٣ ٦- الغيبة للطوسي ص ٢٨٩ ٧- أصول الكافي ج١ ص ١٧٩ حديث ١٢
اخرىبقلم: زينب سامي أنا دفتر ذو غلاف أسود، مكتوب عليه بخط جميل وبحبر أبيض (يا علي مدد)، مالكيِ هو شاب في العشرين من عمره، اسمه (حذيفة)، وهو يعتز بي كثيرًا، ويأخذني معه في كل زياراته، ويحتفظ بي منذ زمن طويل، ولا يكتب بي إلا المشاعر الصادقة، وأيضًا لطالما كانت دموعه الصادقة تنزل على أوراقي، وأحمل بصمات دموعه في داخليِ، وهو يخبرني دائمًا أن أشهد يوم القيامة له على صدقه وبكائه، وآخر رحلة أخذني بها مالكي (حذيفة) كانت لزيارة مولانا الأب الروحي الإمام علي (عليه السلام)، حيث كان هناك حذيفة يبكي كثيرًا، ويطلب من مولاه علي الإذن، وأن يوفقه للذهاب إلى الحج، وشوقه للوصول إلى مكة وقبر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأيضًا شوقه لكي يصل إلى تلك الأنوار الأربعة في البقيع، فاستجاب له الأب ومنحه جواز العبور، ويسجّل اسمه من ضمن العاشقين في هذهِ الرحلة بشكل أشبه بالمعجزة، وماهي إلّا سويعات وبضعة أيام وتنطلق حافلة المحبّين، وكان حذيفة يحلم طوال الطريق كيف يصل إلى تلك الديار؟ وهل سوف يحظى بكل ما كان يحلم بهِ؟ ومضت المسافات والطرق، وقد وصل الحجاج إلى مقرهم، وبدأ المرشد يحدثهم عن مناسك الحج، وكيفية أدائها، وكان يفكر حذيفة متى سوف نزور أئمة البقيع؟ وهل تأخذوننا إلى هناك؟ بينما كان حذيفة يساعد الحجاج بحمل أمتعتهم، كان هناك رجل كبير في السن عطوف وحنون، لمح الحزن في عينيه، حذيفة يا ولدي أراك حزينًا، هل لفقد الأهل والأحباب؟ لا والله يا عم، إن حزني ليس لهذا، ولكنني أرى في قلبي شعلة من الشوق لزيارة أئمة البقيع، وخصوصًا ونحن على أعتاب ذكرى استشهاد مولانا الباقر (عليه السلام) ولا أعرف دربًا للوصول هناك! حذيفة يا ولدي، إن وجودك الآن في الحج وأنت بهذا العمر لم يكن بالمصادفة، تفكَّرْ كيف وفقت للحضور هنا؟ بينما كان حذيفة يتذكر، داعب الرياح أوراقي، ليقرأ حذيفة ما خطته أنامله في آخر زيارة له لأبينا علي (عليه السلام) وهو يطلب منه الأذن للوصول. -نعم وجدتها! فأجاب العم: ماذا وجدت يا ولدي يا حذيفة؟ -عم، هل يمكنك أخذي إلى أقرب مكان نرى به البقيع، سوف أخبرك هناك بمجرد الوصول. وجد العم طريقة استطاع بها الوصول هو وحذيفة إلى ذلك المكان، قام حذيفة بأخذ ورقة مني وكتب بخط يديه: السلام عليك يا باقر العلم، والله أن فقدك يؤلمنا وبعدك يحزننا ساعد الله قلب إمام زماننا وعظم الله له الأجر بفقدك، وبكى حتى ابتلت الورقة بدموعه ثم قام بطي الورقة، وأغمض عينيه، وردّد: يا رب استشفع لديك وأدعوك بحق علي (عليه السلام) أن تصل هذهِ الورقة، إلى محل قبر مولاي، وتحمل إليه كلماتي ودموعي، فهبت ريح بنسيم رائع وأخذت الورقة تطير من يدي حذيفة، وشعرت وقتها بأن كلمات علي قد التفت حولي، والرياح كانت تسير بشكل عجيب حتى وصلت بي وسقطت وقامت باحتضاني حبات رمل كانت بالقرب من ضريح مولاي الإمام الباقر (عليه السلام)، وحينما سقطت سألت تلك الذرات: منذ متى وأنت هنا؟ فأجابت إحداهن -ويبدو أنها اشدهم عشقًا، وإخلاصًا لمولاها-: أنا هنا منذ سنة أربعة وعشرين ومائة، في تلك السنة التي قد فارق بها مولاي الحياة، لقد سمته أيدٍ أموية، وقد سمعت مولاي في اليوم الذي استشهد بهِ ينادي ويأمر بأن يُكفّن في رداء له كان يصلي فيه ليكون له شاهدًا، وبعدها بدأ السم يسري في بدن مولاي ويسري إليه الموت سريعًا، وكان مولاي لا يغفل عن ذكر الله أبدًا، وكان وجهه يزداد نورًا، ودنا الموت حتى ارتفع ذلك النور، وبقيت الغرفة موحشة منذ أن فارق مولاي الحياة، فرفعت كفي متوسلًا بالإله بحق الأنوار الأطهار أن يجعلني حبة رمل أسبحه وأحمده، فذهبت معهم، وحينما حملوا الجنازة كان مولاي الصادق (عليه السلام) قد كفن وغسل مولاي الباقر (عليهما السلام)، وحمله إلى مثواه الأخير هنا في البقيع بقرب مولاي الإمام زين العابدين والامام الحسن (عليهما السلام). وما أن أتمت كلامها حتى فارقت روحها الحياة، لقد كانت حبة رملة مخلصة وشديد العشق لمولاها، وصعب عليها أن تحكي قصته وتبقى في هذهِ الدنيا… رحلت وتركتني وحيدة... كم تمنيت أن أقصّ على حذيفة ما جرى، ولكنني سمعت أن حذيفة قد فارق الحياة من شدة شوقه وحبه لمولاه، وبقيت هنا أنا في هذهِ الدنيا وحيدة… انتظر أن يظهر القائم من آل محمد، فيعود الشيعة لزيارة مولاهم ويحملوني معهم.
القصصبقلم: زينب الحُسين إنّ من الحفاظ على الهوية الإسلامية هي أن تحافظ المرأة على هويتها وخصوصيتها النسائية، أي إن عليها أن تحافظ على مشاعرها ورقّتها ولطافتها وعواطفها الملتهبة وعطفها ومحبتها وصفائها وتألّقها الأنثوي... وفي الوقت نفسه، فإن عليها أن تتقدم جاهدة للخوض في الجانب التكاملي المعنوي كالعبادة والتقرب لله سبحانه وتعالى وكالمعرفة الإلهية والسير في وديان الحب الإلهي ومعرفة العبودية وتحقيقها. كما أن عليها أن ترتقي في المجالات الاجتماعية والسياسية وفي ميادين الصمود والصبر والمقاومة للمغريات والأساليب الغربية الدخيلة، ومعرفة مستقبلها ومعرفة الأهداف السياسية التي تصبوا إليها البلدان الإسلامية ومعرفة العدو ومؤامراته وأساليبه، والانطلاق نحو العُلا دينيًا وعلميًا وعمليًا يومًا بعد آخر. ويجدر بها التقدم أيضًا على نطاق تحقيق العدل وتوفير الأجواء الهادئة والأمن والسكينة في حديقتها العائلية وعشها الزوجي... على المرأة المثقفة الواعية والمتعلمة أن تتقدم وتحقق أفضل المراتب في كافة المجالات وأن تكون أسوة وقدوة يفتخر بها المحيط الأقرب لها فالأبعد؛ حتى يقولوا أن المرأة المسلمة التي تراعي دينها وحجابها ونعومتها ولطافتها ورقّتها، هي نفسها التي تدافع في نفس الوقت عن حقوقها وثوابت دينها وتتكامل في ميادين المعنويات والعلم والتقرب لله (جل وعلا). إن أساس المعرفة الحقة للعبادة والحرية هي تربية نفسها تربية إسلامية هادفة، حتى إن بعض النساء فاقت الرجال بالقوة والوعي والمثابرة، وهذا بفضل التربية الإسلامية، ومن الآثار الطاهرة المطهرة النورانية لوجود فاطمة الزهراء (عليها أفضل السلام) هو الاقتداء بأفعالها والحذو على منهجها الطاهر. أن تكون المرأة حرّة يعني أن تكون عابدة لله سبحانه. كما جاء في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حُرًا) (١). فمن كانت عابدة لزينتها وتبرجها وشهواتها وتميّعها لإبراز مفاتنها وجمالها... لم تكن حرة أبدًا بل هي مملوكة للشيطان وعابدة للهوى، كما وصفهم الله في كتابه العزيز إذ أشار "أرأيت من اتخذ إلههُ هواه"! كما نلاحظ أن الإيمان بالله سبحانه والعبودية الصادقة له هي أعظم خطوة في طريق التحرر الكامل من أي اعتقاد خاطئ أو هوىً جامح أو دنيا غرارة أو شيطان مارد... ففي الإيمان بالله تحرير للفكر من الوهم والضلال والتخبط والحيرة وتحرير النفس من أسر الخوف والقلق والتوتر. فحريتُكِ أيتها السيدة لا تعني تطبيق ما جاء به الغرب من تعاليم لا تمت للإسلام بصلة، ولا في الانجرار لكل سيئة ورذيلة كأن يكن في خلع الحجاب أو التبرج أو الاختلاط بالجنس الآخر. بل تتحقق حريتك في عفّتكِ وصيانتكِ لنفسكِ وجمالكِ. كما قال الإمام علي بن الحُسين (عليه السلام): (ما من شيء أحب الى الله بعد معرفته من عفة بطنٍ وفرج ، وما من شيء أحب الى الله من أن يُسأل) (٢). فالعفة هي الصندوق الذي يصون جوهركِ في داخله، العفة هي الصَّدَفة التي تغطي لؤلؤتكِ لتحفظها من أيادي الغرباء ونظرات الريبة التي توجب الحسرة والندامة! كل ذلك صيانةً للقلب... إذا لم يكدّر مرآة القلب وصفاءها من أقذار الذنوب فإن فطرته الإلهية ستهديه إلى الرشاد. فإن ترك الذنب أهم من التوبة منه بعد الوقوع فيه، (التخلية ثم التحلية). لذلك فإن أكثر أعمال الشيطان هي الوسوسة بارتكاب الذنب لا بترك العبادة. لأن الذنب حينما يسيطر على الإنسان لا تكون عبادته حينئذ موجبة لقربه لله سبحانه بل هي مانعة معيقة إياه، فما كان اهتمام الإسلام في أمر عفاف المرأة إلّا لأنه ينبري للدفاع عنها، حيث إن العفاف هو قانون لحفظ كرامة المرأة وهيبتها وإنسانيتها من الابتذال والزوال؛ فإن جانب العفاف عند المرأة هو عنصر من شخصيتها يجب أن لا يكون عرضة للإهمال! ولنا عبرةٌ في سيدة الطهر والعفاف فاطمة الزهراء (عليها السلام)، إذ قال الإمام علي (عليه السلام): استأذن أعمى على فاطمة (عليها السلام) فحجبته، فقال رسول الله "صلى الله عليه وآله": لِمَ حجبتيه وهو لا يراكِ؟! فقالت (عليها السلام): إن لم يكن يراني فأنا أراه، وهو يشم الريح. فقال (صلى الله عليه وآله): أشهد أنكِ بضعةٌ مني. جمالكِ هو أن تُبحري في تحقيق العفة والعبادة لتنعمي بحريتكِ وتكوني مضيئة .. وليكن في عينيكِ قدوة تحذين حذوها قولًا وفعلًا .. وتستنيرين بنورها الزاهر دنيا ودين.
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى