تشغيل الوضع الليلي
أيُّ حجٍ عند الإمام الحسيـن (عليه السلام) يكتب للزائر؟
منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 7422
بقلم: علوية الحسيني
تزامنًا مع يوم عرفة المبارك ثارت عدّة شبهات حول بعض الروايات الواردة في كتب الشيعة، الدالّة على فضل زائـر الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم، وأفضليته على زائـر بيت الله الحرام.
وبعضهم أخذ يقارن بين زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وزيارة بيت الله الحرام، من حيث المثوبة والتفضيل، متغافلاً وجود روايات في كتبه تقول بفضيلة أعمالٍ عبادية تفوق فضيلة زيارة بيت الله الحرام!
ولتوضيح تلك الروايات والإشكالات الواردة عليها، والجواب عنها، ينعقد الكلام ضمن المطالب التالية:
■المطلب الأول: رواياتٌ في فضل زائر الإمام الحسين (عليه السلام):
نعلم جميعًا أنّ الروايات من حيث السند منها الصحيحة، والحسنة، والموثقة، والضعيفة، وعلى الرغم من ضعف سـند بعض الروايات محل كلامنا إلاّ أنّ بعضها صحيح السند، على أن التشدد السندي لا يؤخذ به في كل مجال؛ فهناك مجالات يتم التساهل سنديًا فيها كالأمور التاريخيّة، والمستحبات التي تجري فيها قاعدة التسامح في أدلّة السنن مثلًا.
وعلى ذلك، فلابأس للمكلّف أن يأتي بها بنيّة رجاء المطلوبيّة، ويأمل أن يكون الشارع المقدّس مريدًا لها، فينال مثوبةً وأجرًا على عمله.
ومن تلك الروايات الواردة في كتبنا المبينة لفضل زائر الإمام الحسين (عليه السلام):
1- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في ثواب من زار الحسين (عليه السلام): "من أتاه في يوم عرفة عارفا بحقه، كتب له ألف حجة، وألف عمرة مقبولة، وألف غزوة مع نبي مرسل أو امام عادل" (1).
فظاهر الرواية لم تحدد أي حجٍ تعادله تلك الزيارة، إلاّ أنّه ينصرف المعنى إلى الحج المستحب؛ لأنّنا نؤمن أنّ الحج مع توفر شرائطه يكون فرضًا واجبًا بالكتاب والسنة القطعية، وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مستحبة على المشهور، فعند تعارض القول بأفضليتهما يقدّم الواجب على المستحب، لكن ظاهر مقصود الإمام (عليه السلام) أنّه يقصد الحج المستحب؛ إذ إنّ المعصوم لا ينافي كلامه دليلًا قطعيًا.
2- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "إن الله عز وجل يـبدأ بالنظر إلى زوار قبر الـحسين بن علي (عليه السلام) عشية عرفـة، قال: قلت: قـبل نظره إلى أهل الموقف [أي عرفات]؟
قال: نعم، قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأن في أولئك أولاد زنى وليس في هؤلاء أولاد الزنا" (2).
فظاهر الرواية تشير إلى كيفية جعل الإمام الصادق (عليه السلام) أهل مكة أبعد من أهل كربلاء؛ بالإشارة لهم باسم الإشارة (أولئك) الذي يستعمل للبعيد، وأشار إلى زوار الإمام الحسين (عليه السلام) باسم الإشارة للقريب (هؤلاء).
وحتمًا أنّ من أنكر فضيلة الأئمة (عليهم السلام) فهو غير طاهر المولد، أو منافق، قال العلامة القندوزي (3): "قال أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) رفعه: من لم يعرف حق علي فهو أحد من الثلاث: إمّا أمُّهُ الزانية، أو حملته أمُّه من غير طهر أو منافق" (4).
إذًا المبغض المنكر فضائل عليّ (عليه السلام) لابد أن يكون من أحد الأقسام الثلاثة، ولاسيما سائر الأئمة (عليهم السلام)، ويستكثر تمييز الله تعالى للإمام الحسين (عليه السلام) ولزائريه العارفين بحقه.
3- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "من زار الحسين (عليه السلام) يوم عرفة عارفًا بحقه، كتب الله له ألف حجّــة مقبولة، وألف عـمرة مبرورة" (3).
فنجد أنّ الرواية هنا قيّدت الزيارة بعرفان حق الإمام الحسين (عليه السلام)، ثم أعطته ثواب الحج والعمرة -المستحبين- بذلك العدد.
■المطلب الثاني: مناقشة الروايات:
اثيرت بعض الأسئلة على تلك الروايات، نتيجة الوقوف على ظواهر الروايات، أو التغافل عن وجود مثيلها في كتبهم، أو لتفاقم الحقد الدفين على آل محمد (عليهم السلام) لما لهم من منازل رفيعة عند الله تعالى، ومن تلك الأسئلة:
السؤال الأول:
هل من عدل الله تعالى أن يفضّـل زائر أحبّ أوليائه (عليهم السلام) علــى زائر بيته الحرام الذي ترك المال والأهل والولد ليلّبي نداء التلبية ويؤدي أحد أركان الإسلام الواجبة عليه، بنظر الله تعالى وشموله بالرحمة للزائر الأول قبل الأخير؟!
والجواب عليه:
أولاً: نقضًا:
وهل من عدالـة الله أن يجعل مجـرد صلاة الغداة جماعة والاشتغال بعدها بذكر الله تعالى حتـى طلوع الشمس وتعقيبها بـركعتين تعادل بأجـرها حـجّة وعمـرة –كما يقول الترمذي-؟!
والألباني يؤيّـد كلام الترمذيّ في حديثٍ صحيح في (صحيح الجامع الصغير)! عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: "من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة، قال: قال: رسول الله (صلى الله عليه {وآله} وسلم) تامة تامة تامة" (5).
فإذا كان اللهُ تعالى عـادلًا كما يقول الترمذيّ والألبانيّ بـجعل صلاة ركعتين تعادل أجـر الحجّـة والعـمرة، فـهو سبحانه عـادلٌ كما قال أئمتنا (عليهم السلام) بجعل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) تـعادل الحـجّة والعـمرة المستحبتان.
ونسألهم: هل مَن يصلي مجرد ركعتين يُـقارن بالمثوبة بالذي ترك الأهل والمال والولد ليلبـي نداء الله بزيارة بيته الحرام؟!!
فجوابكم جوابنا.
ثانيًا: الجوابُ الحلـيّ
أنّ السؤال المطروح يوافق مقاييسنا الماديّة نحن البشر، أمّا في المقاييس الالهيّة فلا دخل لذلك في عِظَم الثواب؛ وإلاّ فما بالنـا في نزول سورة الدهر لأجل تخليد صدقة بـكسرة خبز؟!
السؤال الثاني:
هل إنّ الحسين (عليه السلام) أعـظم منزلةً من الكعـبة حتى جعل الله تعالى مثوبـة زوّاره تفوق مـثوبة زائري بيته الحرام؟
والـجواب عليه:
أولاً: نقضًا:
إنّ المـسلم أعظم درجةً من الكـعبة، وهذا ما جاءت به كتب القوم أيضًا؛ كالحديث الذي ذكره البيهقي في شعب الإيمان قال: "أخبرنا أبو القاسم بن حبيب... عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق" (6).
وروي بلفظ : لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل مسلم. قال السخاوي: لم أقف عليه بهذا اللفظ ولكن روي معناه عند الطبراني. وله روايات كثيرة يعضد بعضها بعضا فترتقي به إلى درجة الصحيح لغيره، ومن ذلك ما رواه النسائي من حديث بريدة مرفوعًا: قدر المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا. وابن ماجه من حديث البراء مرفوعًا: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق.
فلماذا لا تستنكرون تفضيل مسلمٍ عاديّ لــم يذهب الله تعالى عنه الرجس على الــكعبة المشرّفة وتستنكرون تفضيـل ريحانة الرسول وقرّة عين البتول، المطهّر من الرجس، الذاهب عنه الدنس، الحسين بن عليّ (عليه السلام) ؟!
ثانيًا: الـجوابُ الحـلّي
هنالك روايات في كتبنا نهت عن إيذاء المؤمن مطلقًا، منها: "عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي"(7).
و رواية اخرى "عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الصدود لأوليائي، فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم ثم يؤمر بهم إلى جهنم"(8).
فإذا كانت عظمة المؤمن العادي بهذه الدرجة، فكيف بعظمة وليّ الله الإمام الحسين (عليه السلام) بإعطائه فضيلة فوق زيارته للحج والعمرة المستحبان!
والخلاصة:
أنّ الروايات التي تفيد بيان أفضلية زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المستحبة على الحج الواجب ضعيفة سندًا لا يمكن الأخذ بها، كما أخذ بها أعداء المذهب مشنعين فرحين، وأمّا من لم يقل من علمائنا بضعفها فيؤولها إلى أفضلية الزيارة على الحج المستحب.
■المطلب الثالث: تشريف كربلاء على مكة المكرمة.
من الممكن القول بشرافة كربلاء المقدسة على مكّة المكرمة من خلال عدّة وجوه، منها:
*الوجه الأول: القرآن الكريم:
1- قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} (9).
2- وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا} (10).
ففي الآية الأولى أمر الله تعالى إسماعيل وإبراهيم (عليهما السلام) بـــتطهير بيته الحرام من الأوثان، وفي الآية الثانية الله تعالى بــنفسه طهّــر أهل البيت (عليهم السلام) من الرجس، ومن ضمنهم الإمام الحسين (عليه السلام). ومن ذلك تتبيّــن قداسة الإمام الحُسيـن (عليه السلام)، ودرجة تفضيله على مكّة المكرّمة التي هي بيته الحرام.
*الوجه الثانـي: إنّ تراب قبـر الإمام الحسين (عليه السلام) نزل به جبرائيل من السماء، طبقًا لروايات وردت في كتب الفريقين، منها:
1- ما حدّث به عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة، أو أم سلمة قال: "أن النبي (ص[صلى الله عليه وآله]) قال: لأحدهما: لقد دخل علي البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول فإن شئت آتيك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال : فأخرج إلي تربة حمراء" (11). 2- وعن عائشة، أو أم سلمة: "أن رسول الله (ص [صلى الله عليه وآله]) قال لها: لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل علي قبلها، فقال: إن حسينًا مقتول، وإن شئت أريتك التربة .... الحديث" (12).
إذًا من ينكر فضل تربة كربلاء عليه أن يكذِّب ما جاءت به عائشة أو أم سلمة. ولا أخالهم يجرؤون.
فتربة كربلاء مصدرها سماوي، حيث هبط بها ملك –جبرائيل (عليه السلام)، بينما تربة مكة المكرمة مصدرها أرضي.
3- وروي في كتبنا عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: "خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدمة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أوليائه في الجنة" (13).
4- عن محمد بن سنان عن أبي سعيد القماط قال: حدثني عبد الله بن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لرجل من مواليه: "يا فلان أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام)؟ - الى أن يقول - ويحك أما تعلم أنَّ الله اتخذ كربلاء حرماً آمنا مباركاً قبل أن يتخذ مكة حرما..." (14).
وهناك روايات يظهر منها أفضلية مكة على غيرها من البقاع، ففي (الفقيه) عن سنان عن سعيد بن عبد الله الأعرج عن ابي عبد الله (عليه السلام): قال: (أحب الأرض الى الله مكـــة وما تربة أحب الى الله من تربتها ولا حجر أحب الى الله من حجرها ولا جبل أحب الى الله من جبلها ولا ماء أحب الى الله من مائها).
ويختلف العلماء بناءً للاختلاف في الروايتين في أيتهما الأفضل، فذهب البعض الى أفضلية مكــة، والبعض الآخر الى أفضلية كـــربلاء، ويذهب البعض الى أفضلية مكة على سائر البقاع عدا قبور النبي والائمة (عليهم السلام)" (15).
يقول الشهيد الأول: "مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وروي في كربلاء على ساكنيها السلام مرجحات، والأقرب أن مواضع قبور الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كذلك، أما البلدان التي هم فيها فمكة أفضل منها حتى من المدينة" (16).
وعلى كلّ حال فإنّ قداسة أرض كربلاء وأفضليتها نتاج تشرفها بضم جسد خامس أصحاب الكساء، سيد الشهداء، الإمام الحسين (عليه السلام)، والأجساد الطاهرة من شهداء الطف، والمكان يقتبس قداسته وشرفه مما يحتويه، وبقدر ما له من صلة وعلاقة بالله تبارك وتعالى، وفي كربلاء قبر [ثار الله]، وقبلة قلوب المؤمنين، ومصباح الهدى، وسفينة النجاة، ووجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء، ومن لا تقبل الأعمال إلاّ بولايته، والانقياد لله تعالى بطاعته، والاقتداء به، والسير على هديه، به تقدّست كربلاء وشُرِّفت، فكان لـــها الحق في الفخر والشموخ على أرض مكة المكرمة.
________________
(1) ثواب الأعمال: للشيخ الصدوق، ص115، الأمالي: للشيخ الصدوق، ص143. وأورده الشيخ الطوسي في أماليه، ج1، ص204.
(2)ثواب الأعمال: للشيخ الصدوق، ص90. معاني الأخبار: للشيخ الصدوق، ص391. البحار: للعلامة المجلسي، ج98، ص85. كامل الزيارات: لجعفر بن محمد بن قولويه، ص317. تهذيب الأحكام: للشيخ الطوسي ،ج6، ص50. من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق، ج2، ص580. وسائل الشيعة: للحر العاملي، ج10، ص361. مستدرك الوسائل: للميرزا حسين النوري الطبرسي، ج10، ص282.
(3) ينابيع المودة: للقندوزي، ص252.
(4) رواه المولى محمد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية، ص203.
(5) سنن الترمذي: لأبو عيسى الترمذي، ص150، ح586.
(6) أخرجه: النسائي، 7/82. وفي الكبرى له، 3448 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(7) وسائل الشيعة: للحر العاملي، ج،8 ص588.
(8) المصدر نفسه، ص587.
(9) البقرة: 125.
(10) الأحزاب: 33.
(11) مسند أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل،ج2، ص770، ح 1357.
(12) سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي، ج3، ص290.
(13) كامل الزيارات: لمحمّد بن قولويه القمي البغدادي، ص444.
(14) المصدر نفسه، ص449.
(15) مركز الأبحاث العقائدية.
(16) الدروس ج1 ص470.
أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى السَّيِّدِ الزَّاهِدِ، وَالْإِمامِ الْعابِدِ، اَلرَّاكِعِ السَّاجِدِ، قَتيلِ الْكافِرِ الْجاحِدِ، صاحِبِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلآءِ، اَلْمَدْفُونِ بِأَرْضِ كَرْبَلآءَ، مَوْلَى الثَّقَلَيْنِ، أَبي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْن.
اخترنا لكم
نفحاتٌ ملكوتيةٌ من الخطابِ الزينبي (١٠) "مُنتَحيًا على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخْصَرتك"
بقلم: علوية الحسيني ظاهرًا هذا هو الموقفُ الذي دفعَ السيّدةَ زينبَ (عليها السلام) لإلقاءِ خطبتِها البليغة؛ حينما كانت في مجلس الطاغيةِ يزيد (عليه لعنة الله)؛ وكان (لعنه الله) يتجاسرُ على رأسِ الإمامِ الحسين (عليه السلام) بضربِ ثناياه الشريفة بالمخصرة، مما أفجعها، حتى قالت ما قالت. ولاشكَّ أنّ لهذهِ العبارةِ جوانب عقائدية، وأخلاقية، وبلاغية، يتمُّ توضيحُ شيء منها بالتالي: ■الناحيةُ الأولى: الناحيةُ العقائدية نعلمُ -كما وصلَنا عن أئمتِنا (عليهم السلام)- أنّه لولا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لمُحيَ الدّينُ محوًا على يدِ الطاغيةِ يزيد ومن مكّن له من الحكم (عليهم لعنة الله جميعًا)، ومن لم يكنْ يعلمُ بذلك فليعلمْ من خلالِ التأمُّلِ في تجاسرِ يزيد على رأسِ سيّدِ شبابِ أهلِ الجنة -كمثال- وإلا فشنائعُ أفعالِ ذلك العتل كثيرةٌ. وقد روَتْ هذا الحدثَ الفجيعَ كتبُ أبناءِ العامة؛ إذ روى الذهبي: "... ثم قاتلَ [الإمام الحسين] حتى قُتِل، قتلَه رجلٌ مذحجي، وحزَّ رأسَه، ومضى به إلى عُبيدِ الله، فقال: وقرْ ركابي ذهبا فقد قتلتُ الملكَ المُحجّبا قتلتُ خيرَ الناسِ أمًا وأبا فوفدَهُ إلى يزيد ومعه الرأس، فوضعَ بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعلَ يزيدُ ينكتُ بالقضيبِ على فيه، ويقول: نفلقُ هامًا من أناسٍ أعزة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما"(1) وهذا فعلٌ غيرُ مُستبعدِ الصدورِ ممّن هتكَ حُرمةَ الكعبةِ حينما رماها بالمنجنيق! ولو تأمّلْنا في قولِ السيّدةِ زينب (عليها السلام) وتساءلنا: لماذا هُنا تحديدًا وصفتِ الإمامَ الحسين (عليه السلام) بأنّه سيّدُ شبابِ أهلِ الجنة، دونَ أنْ تصفَه بصفةٍ أخرى، أو تُطلِقُ قولَها؟ لكان الجوابُ: إنّها حكيمةٌ، والحكيمُ أفعالُه وأقوالُه مُعلّلةٌ بغرض؛ وتتجلّى الحكمةُ من قولِها (سيّد شباب أهل الجنة) تذكيرًا للطاغيةِ بأنّ عقيدتَه شوهاء؛ لأنّ سيّدَ شبابِ أهلِ الجنة هو إمامُ أهلِ الأرض، والخروجُ على الإمام، فضلًا عن قتله والتمثيل برأسه الشريف لهوَ انسلاخٌ عن الدّينِ المحمدي. والنصوص متوفرة كثيرة حتى عند يزيد تشهدُ أنّ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) قد وصفَ الإمامَ الحسينَ (عليه السلام) بأنّه سيّدُ شبابِ أهلِ الجنة؛ "فعن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسولُ الله (ص[صلى الله عليه وآله]): الحسنُ والحسينُ سيّدا شبابِ أهلِ الجنة"(2). تُرى بأي ّ طريقةٍ بعدُ أُثبتُ للعالمِ بأسرِه كفرَ الطاغيةِ يزيد؟! إن السيّدة زينب (عليها السلام) قد أعطت للطاغيةِ وجلسائه وجميعِ الحضور، ومضةً عقائديةً بحقِّ الإمام، ووجوب احترامه، وأنّ الخروجَ عليه -فضلًا عن التمثيل برأسه- هو الكفرُ الصريح؛ لأنّه فعلٌ مُخالفٌ للعقيدةِ بمن جعلَه إمامًا وهو اللهُ (تعالى)، وما أراه إلاّ بدرجةِ كُفرِ فرعون بل أشد. ■الناحيةُ الثانيةُ: الناحيةُ الإنسانية. لم ينقلْ لنا التاريخُ واقعةً كواقعةِ الطف، وهذا يدلُّ على وحشيّةِ العدو، وعدمِ إنسانيته؛ بعدم مراعاته للقواعد الإسلامية في الحروب، هذا على فرضِ كونِ الإمامِ الحسين وعيالاته (عليه وعليهم السلام) أناسًا عاديين، وإلاّ لاكتفى بمبارزة الإمام. بل ولكونه جبانًا، ثملًا، لن يخوضَ حربًا مباشرةً مع الإمام الأسد الفارس (عليه السلام)، فقد تجسّدتْ عدمُ إنسانيته بالغدر بالإمام، بل وبالجرأةِ بالتمثيلِ برأسه، وضرب ثناياه أمامَ سليلاتِ النبوّةِ (عليهنّ السلام) -هذا فضلًا عن سبيهنَّ-فهذه هي بهيميّةُ يزيد (عليه لعنة الله). ■الناحيةُ الثالثةُ: الناحيةُ البلاغية. اشتملَ خطابُ السيّدةِ زينب (عليها السلام) هذا على أسلوبٍ بلاغي، غاية في الأهمية، وهو الإطناب. "أي زيادةُ اللفظِ على المعنى لفائدةٍ مرجوّة"(3). فالسيّدةُ زادتْ على لفظِ (أبي عبد الله) لفظ (سيّدِ شبابِ أهلِ الجنة)، وكذا زادتْ على لفظِ (مُنتحيًا على ثنايا) لفظَ (تنكتُها بمِخْصَرتك)، فأطنبتْ بالكلام؛ أي أطالته؛ لفائدةٍ طبعًا. فحينما أضافت لـ(أبي عبد الله) صفةَ (سيّد شباب أهل الجنة) فلعلّها تقصدُ عدّةَ أمورٍ، منها: 1- دفعُ الإيهامِ عن سامعي خُطبتِها من عامةِ الناس، "وهذا أحدُ أغراضِ الإطنابِ بلاغيًا"(4)؛ فليسَ كُلّ من كان حاضرًا في مجلسِ الطاغية يزيد (عليه لعنة الله) يعلمُ بمقامِ السبايا والرؤوس المشالات. لهذا أجّجتِ الحضورَ بخُطبتِها (عليها السلام)، مما جعل البعضُ يثور على يزيد الذي كان قد خدعهم بأنّ السبايا هم من الخارجين على أمير المسلمين؛ "كالشيخ الذي قال للسبايا: الحمدُ لله الذي قتلكم وأهلككم وأراحَ البلادَ عن رجالِكم، وأمكنَ أميرُ المؤمنين منكم"(5). فما أبلغ الحوراء! 2- إثارةُ الحميّةِ عند المُتلقين"(6)، وهذا غرضٌ لا يقلُّ أهميةً عن السابق؛ إذ يُروى " أنّ رسولَ ملكِ الرومِ كان حاضرًا في مجلسِ الطاغية، فلّما عرفَ صاحبَ الرأسِ وبّخَ الطاغية، ووثبَ إلى رأسِ الحسينِ (عليه السلام) فضمَّهُ إلى صدره وجعلَ يُقبِّلُه ويبكي حتى قتلَه الطاغيةُ لئلا يُفتَضَح"(7). *وحينما أضافت لــ(منتحيًا على ثنايا) لفظ (تنكتها بمِخْصَرتك)، فلعلّها تقصدُ توضيحَ مرادها"(8), لأنّ المُخاطبَ الطاغيةَ (عليه لعنة الله) لا يفقهُ إلا بالإطناب؛ فبلاغةُ السيّدةِ كثيرةٌ عليه؛ مما اضطرها إلى التوضيحِ بأنّ معنى (مُنتحٍ) هو اتخاذُه ناحيةً يقرُبُ فيها من الرأسِ الشريفِ لينكُتَ الثنايا الطاهرة! فلم يكنْ إطنابُها معيبًا؛ لأنّه لم يخل من فائدة. ____________________ (1) سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي, ج3, ص309. (2) مسند أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل, مسند أبي سعيد الخدري, ج3, ح10616. (3) البلاغة الواضحة: لعلي الجارم ومصطفى أمين, ص250. (4) التحفة الباهرة في بلاغة المخدرة الطاهرة: لحسين البحراني, ص88. (5) اللهوف في قتلى الطفوف: للسيد ابن طاووس, ص102. (6) مصدر سابق, ص88. (7) اللهوف في قتلى الطفوف: لسيد ابن طاووس, ص110-111. (8) المصدر نفسه. وثواكلٌ في النوحِ تُسعِدُ مثلَها أرأيتَ ذا ثكلٍ يكونُ سعيدًا؟! حنّتْ فلم ترَ مثلَهنَّ نوائحًا إذ ليس مثلُ فقيدهن فقيدًا
البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلامآراءٌ ووجهاتُ نظر الجزء الثاني: الشبابُ وسُرعةُ التأثر بالمُغريات
بقلم: دعاء الربيعي يعاني المجتمعُ من مجموعةٍ من الظواهرِ السلبيةِ المنتشرة فيه، ومن أهمِّ وأخطرِ هذه الظواهر هي سُرعةُ التأثُر بالمُغرياتِ، والانصياع للرغبات، والانسياق وراءَ الشهوات. وكُلُّ فئةٍ من فئاتِ المُجتمعِ مُعرضةٌ للتأثُّرِ بالمُغريات، لكنّ فئةَ الشبابِ تُعدُّ هي المُتأثِر الأول والأسرع بهذه الظواهر؛ وذلك لأنّ مرحلةَ الشباب تتفرّدُ عن غيرِها من المراحل، ففيها تكونُ الانطلاقةُ الحقيقةُ للفردِ، فهي مرحلةٌ دافقةٌ ومليئةٌ بالحيوية والنشاط، وهي مرحلةٌ متأججةٌ بالاندفاعية والإرادة، مليئةٌ بالطاقاتِ والطموحاتِ والتطلعاتِ. ففي مرحلةِ الشباب يكتملُ نموّ الإنسانِ جسميًا وفكريًا، وتُسمّى الفترةُ الذهبيةُ من حياةِ الإنسان؛ لأنّها مرحلةٌ واقعةٌ بين ضعفِ الطفولةِ والصبا وضعف الشيخوخة. وفي هذه المرحلة العمرية تتبلورُ وتتشكلُ ملامحُ شخصيةِ الفرد من عدّةِ نواحي: وهي الجسدية، والنفسية، والعقلية، والعاطفية؛ لتتجلى فيها الشخصيةُ الحقيقية. ولأنّ مرحلةَ الشباب تختلطُ فيها العواملُ الإيجابيةُ والسلبيةُ والمؤثرات الجيّدةُ والرديئة؛ لذا فإنَّ فئةَ الشبابِ هي الفئةُ المستهدفةُ من بينِ فئاتِ المُجتمعِ الأخرى بالدرجة الأولى، مستهدفة من قبل المُصلحين والمُفسدين؛ لما للشبابِ من أهمية، ولما لهم من سرعةِ تأثرٍ واستجابةٍ وتحوّلٍ وحماس. لذا نجدً أنّ الشبابَ هم الضحيةُ الأولى، وهم المتأثرُ الأولُ بالمغريات من حولهم بغضِّ النظرِ عمّا إذا كانت سلبيةً أو إيجابيةً يُراد بها إفسادهم أو إصلاحهم. ولأنّ شخصيةَ الشبابِ عادةً ما تكونُ سطحيةً خاليةً من التدبر والتأمل نراهم يقعون في حبالِ المُغرياتِ المُفسدة التي تودي بهم إلى الهاوية. وبما أنَّ التأثرَ بالمُغرياتِ له مردوداتٌ سلبيةٌ على الفردِ والمُجتمعِ ككل، توجّبَ علينا أنْ نسلطَ الضوءَ على هذه الموضوعة الحسّاسة والمهمة، ونبحث عن أسبابها والدوافع التي تقفُ وراءَ انتشارِ هذه الظاهرة بين فئةِ الشبابِ، ونسعى لوضعِ حلولٍ ناجعةٍ تُساعدُ على الحدِّ من التأثر السلبي. لذا توجّهنا بالسؤال إلى بعض المختصين وأصحاب الخبرة وسألناهم عن سببِ سرعةِ تأثُّرِ الفردِ الشابِ بالمغرياتِ دون غيره من الفئات الأخرى؟ وكيف يُمكنُ الحدُّ من ذلك؟ وما هي انعكاساتُ وآثارُ هذا التأثّر على حياةِ الشابِ في المستقبل؟ وكانت الإجاباتُ متنوعةً وذاتَ أبعادٍ مختلفة منها: أولًا: العالم الإلكتروني. وهو أهمُّ مسبباتِ التأثر السلبي، هذا ما أكدت عليه أ. م. د. فاطمة كريم رسن، جامعة ابن رشد/ كلية التربية / قسم اللغة العربية، حيث قالت: تتعرضُ فئةُ الشبابِ في عصرِنا الحالي إلى موجةٍ عارمةٍ من التحديات على مستوى التعاطي الفكري والأخلاقي والنفسي في ظلِّ المؤثراتِ السمعية والمرئية التي أتاحتها السوشيل ميديا (العالم الإلكتروني) دون ضابطةٍ تُحدِّدُ منافعَ هذه التقنية من مضارها والمتمثلة بمقاطع الفيديو اللا أخلاقية والمنشورات ذات الأفكار المدسوسة.. إلخ. وكلُّ هذه الأمور بلا شك سوف تهدرُ وقتَ الشابِ على الأمورِ غير النافعةِ التي لا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع، ثم إنّ مسار تعاملِ الشبابِ بهذا المستوى وعلى هذه الشاكلة يُعرِّضه إلى إشكاليةِ هدرِ الوقتِ، والفراغِ الفكري، وخواء النفس. ويُساعدُ على ذلك قلّةُ معرفتِه وعدمُ ضبطِ سلوكِه على الأغلب، فيكون الشاب فريسةً سهلةً تطيحُ به تلك المُغريات. وهناك عدةُ مؤشراتٍ يُمكنُها أنْ تتركَ أثرًا كبيرًا في انحرافِ الشباب وهي بذاتِها تُعدُّ من موجباتِ حمايتِه وبنائه بناءً سليمًا لو اشتغلَ عليها على النحوِ الصحيح وهي: الالتزام الأخلاقي، والقرب من الله (تعالى) بالاطلاع ولو بنسبةٍ قليلةٍ على التعاليمِ الإلهية من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودور الوالدين، ومقدار عنايتهم بالأبناء وتحليهم بنسبةٍ وافيةٍ من المعرفةِ النفسيةِ والتربوية في طريقةِ تربيتهم، والبيئة والمحيط، وهو مؤشرٌ ليس باليسيرِ إغفاله؛ فانتشارُ المؤشراتِ السلبية لا يُمكنُ تجاوزوها لذلك هناك أثرٌ كبيرٌ للمجتمعِ في توجيهِ الشبابِ وغيرها الكثير. ولا شكَّ أنّ ضغوطاتِ الحياةِ المختلفة أيضًا تُساهمُ في خلقِ فئةٍ شبابيةٍ مهزوزةٍ من الداخل، ذات وعيٍ منقوصٍ لا يعي خطورة المرحلة التي يعيشها بكُلِّ مؤثراتِها المُتمثلةِ في قتلِ المقدرة العقلية البنائية للشباب المسلم التي تُمكِّنه من بناء مستقبله. وهنا تكمن المشكلة، وغايةُ دولِ الاستكبار من البلدان الإسلامية تحطيمُ الشبابِ معنويًا وفكريًا لصيرورة مجتمعٍ سلبي غير قادرٍ على البناء، ومن ثم يكونُ أداةً سهلةً في عجلةِ الاستكبارِ العالمي الذي غايته الكبرى هو تهديمُ وتدميرُ الدين الإسلامي من خلال ضعف بنيته الشبابية. ثانيًا: التوجيهُ الصحيحُ يُساهمُ في حلِّ مشكلةِ التأثر. هذا ما أوضحته الدكتورة كوثر حسن، جامعة كربلاء/ كلية التربية قسم العلوم الإسلامية؛ إذ أشارت إلى أنّ الشبابَ يمرُّ بمرحلةِ النضجِ الفكري والعقلي والوجداني، مما يؤدي ذلك إلى محاولةِ إشباعِ حاجاتِه النفسية والعقلية والفكرية والمهنية وغيرها؛ فنجدُ الشابَ يخضعُ أحيانًا إلى مغرياتٍ من شأنِها أنْ تُشبعَ هذه الحاجاتِ لكونه يمرُّ بفترةٍ حرجةٍ من حياتِه، فلا بُدَّ من توجيهِ طاقاتهم الخلّاقة وحماستهم التوجيه الصحيح. ويُمكنُ أنْ نحدَّ من سرعةِ تأثرِ الشباب بالمغريات من خلالِ التوجيه والتوعية الدينية وفسح المجال للشباب للتعبير عن آرائهم ومقترحاتهم واحتوائهم من خلال معرفة متطلباتهم ورغباتهم، ومحاولة الاستجابة لها ومنها: توفير فرص عمل للشباب؛ لتفريغِ الطاقاتِ الكامنة والأفكار البنّاءة، وبذلك نكونُ قد بنينا مجتمعًا صحيحًا متكاملًا وفقَ أسسٍ رصينةٍ وثابتة. ثالثًا: ضعفُ الشعور بالذات من أهمِّ عواملِ التأثر. هذا ما أشارت إليه الأستاذة الحوزوية اعتدال العجمي من دولة عمان/ جامعة المصطفى العالمية، حيث قالت: الإنسانُ عبارةٌ عن مجموعةِ عناصرٍ مادية ومعنوية، حسية وروحية، ولبنائه بناءً سليمًا لا بُدَّ من إشباعِ هذه العناصر والعناية بها؛ لذا يجبُ أنْ يُعدَّ الشبابُ بشكلٍ خاص إعدادًا سليمًا متكاملًا، روحيًا وبدنيًا وفكريًا ونفسيًا وعقليًا وعاطفيًا ووجدانيًا، كلُّ ذلك من مُنطلقاتٍ مُتعددةٍ أساسها العقائد الحقّة، حيثُ يجبُ أنْ يُربّى الشبابُ على الاعتزازِ بدينهم، والتمسك بهويتهم، ويتوجّبُ عليهم أنْ يكونوا أقوياء في أجسامهم وعقولهم وأرواحهم وأخلاقهم، وأن يكونوا مراقبين لسلوكياتهم، مغتنمين مرحلة الشباب بكُلِّ ميزاتها وخصائصها. أما موضوعةُ لهثِ الشبابِ خلفَ المُغرياتِ وانجرارهم نحوها فله عدةُ أسبابٍ منها: الاتكالية، واللامبالاة، وضعف الشعور بالذات، وعدم القدرة على تحمُّلِ المسؤوليات الجسمية؛ حيث يكونون مصدرًا للمتاعب والمشاكل، ويُشكلون عبئًا على الأسرة والمجتمع، عاجزين عن تحمُّلِ زلاتهم وتبعاتها والإدلاء برأيهم في القضايا المصيرية. بالإضافةً إلى الجهل والهمجية وسوء الأخلاق؛ بسبب الابتعاد عن الدين، وضعف الإيمان، والانعزال عن أهلِ العلمِ والصلاحِ، والانغماسِ والغرق في لُججِ الفتن والملذات والأهواء، وتدني مستوى التطلعات، والانشغال بالأماني الفارغة، كلُّ تلك الأمور تُساعدُ وتُساهمُ بشكلٍ فعّالٍ في سرعةِ تأثرِ الشبابِ بالمُغرياتِ، وتكونُ دافعًا أساسيًا لهم في الابتعاد عن الطريق الصحيح والمنهج القويم؛ فتنقلبُ كافةُ الموازين، وتتبدل أغلبُ المضامين فيصعبُ الإصلاحُ، وقد يتعذّر أو يستحيلُ؛ فمن شبَّ على شيءٍ شاب عليه. رابعًا: احتواء الشباب والشعور باحتياجاتهم. وهذا ما بيّنته الأستاذة الحوزوية عبير ياسر الزين من دولة سوريا/ حوزة بنت الهدى، حيث قالت: الشبابُ بطبيعةِ الحالِ يحتاجون إلى من يحتويهم، ويشعرُ ويتفهمُ أفعالهم التي يقومون بها؛ فمثلًا إنْ قلّدوا ظاهرةً ما فيتوجبُ علينا قبلَ أنْ نحكمَ عليهم أو نوبخهم أن نسألهم عن السبب الذي جعلهم يُقلّدون ويحاكون هذه الظاهرة أو تلك، فأحيانًا يجدُ الشابُ نفسَه أو يُحققُ ذاته أو يُثبتُ شخصيته في تقليدِ الآخر في مظهرهِ، كأن يقول: أنا أجد في نفسي حلاوةً عندما أقلِّدُ فلانًا من المشاهير، أو أحاكي تصرفاته، وهذا الشيءُ يجعلُني مقبولًا ومُحببًا بين أقراني! فهنا يتوجّبُ علينا كمُربين أنْ نوعّي الشاب، ونُبيّن له أنّ إيجاد نفسك أو إثبات ذاتك لا يكونُ بمحاكاةِ الآخرين أو تقليد الغير. جِدْ نفسك، وحقِّقْ ذاتك في أمورٍ مُحببةٍ لديك، أنت تنفردُ بها، كأن تكون صاحبَ هوايةٍ أو مهنةٍ مُشرّفةٍ تجعلُ منك إنسانًا ناجحًا يتبعك ويُقلدك الآخرون بدل أنْ تكون أنت مقلداً لهم. وهذا الأمرُ لا يتحققُ بسرعةٍ وبسهولةٍ، إذ يتوجّبُ على المُربين وأولياء الأمور أنْ لا ييأسوا من كثرةِ محاولاتِهم في إقناعِ أولادهم بأمرٍ ما، ونصحهم وتوجيههم نحو السلوك القويم. وبعد أنْ أنهينا الحديث مع المختصات اتجهنا بالسؤال إلى مجموعة من الشباب من فئة الإناث لنأخذ آرائهن حول موضوعة التأثر وكان سؤالنا: من وجهةِ نظرِك ماهي العواملُ التي تساعدُ الشباب على التأثر بالمُغريات والانجرار وراءها دون وعيٍ وإدراك؟ وماهي الرسالة التي تودين توجيهها إلى بناتِ عصرك فيما يخصُّ التأثر السلبي وصيانة النفس من الشهوات والوقوع في المحرمات؟ *هبة الموسوي، طالبة جامعية / 22عاماً قالت: برأيي قوةُ الشخصية لها الأثرُ الفعّال والكبير في ابتعادِ الشبابِ عن المُغريات؛ فالشابُ صاحبُ الشخصية القوية تكون لديه الرؤيا واضحةً ويستطيع أنْ يُميّزَ الأفكار الغريبة الدخيلة فيبتعد عنها ويكونُ بمأمنٍ من مضارِها المادية والمعنوية التي سوف تؤثرُ عليه سلبًا. ورسالتي لأخواتي هي أنْ يبتعدن عن التقليد الأعمى للغرب، وعليهن أن يميزن بين الصح والخطأ قبل أنْ يلجأن إلى التقليد. *غدير خم العارضي، طالبة في كلية الصيدلة/ جامعة الكوفة/ مرحلة ثانية، قالت: برأيي يتوجّبُ أن يكون الشابُ بالمستوى المطلوب، لكن مع الأسف نرى اليومَ أنّ أغلب الشباب ليس لديهم الوعي أو الثقافة المطلوبة فبمجرد أنْ يواجهه خطرٌ ما فإنّه سوف يقعُ فريسةً له؛ لأن ليس لديه أيّ رادعٍ ديني أو مرتكز يُمكنُه من التصدي أو مواجهة ذلك الخطر المحدق به. كذلك رفقاء السوء من وجهة نظري؛ إذ يُعدُّ صديق السوء مؤثراً قوياً وفعالاً في الشاب يجعله يحاكي تصرفاته ويفعل ما يفعلون، وكما تعرفون أنّ المرءَ على دين خليله، والإنسانُ بطبعهِ ميالٌ إلى محاكاة أقرانه وتقلديهم. ومن هنا يتوجّبُ على الشاب أو الشابة أنْ يُحسنا اختيار الصديق، ويبحثا جاهدين عن الخليل المثالي الذي يسلكُ به سبل الخير والفلاح. وأما رسالتي إلى أقراني من الشباب والشابات فهي الاعتناء بالتحصيل العلمي والسعي لتهذيبِ النفس سلوكيًا وأخلاقيًا؛ لأنّ الدراسة شيءٌ مهمٌ؛ فكُلّما كثُرت معلوماتِ الأنسان تنبّه من مواجهةِ الأمورِ المحيطة به بحكمةٍ ووعيٍ أكثر . *بنين عارف الجبوري، طالبة إعدادية/ 18 عاماً، قالت: سهولةُ الحصول على المُغريات برأيي هو عاملٌ أساسيٌ في خرابِ الشاب وتدني مستواه الأخلاقي، فاليومَ مع بالغِ الأسف نشهدُ تطورًا تكنلوجيًا لا مثيل له، وقد دخل البيوت من أوسع أبوابه، وبات موجودًا في كُلِّ غرفةٍ ولدى كل شاب، والشابُ يرى ويسمعُ ويتأثرُ بما يُعرضُ، وبالتالي يُقلدُ ويُحاكي ما يُشاهده وما يسمعه. ورسالتي للفتيات هي الابتعاد عن كُلِّ ما يُسببُ الانحلال الخُلقي والديني من برامجَ تلفزيونية ومواقعَ تواصلٍ إلى غيره من وسائل التكنلوجيا الحديثة. وختامًا، لكُلِّ ما ذُكِر على لسان الأخوات يُمكنُ القولُ: إنّ هناك عدةً من العوامل تؤثرُ في الشبابِ، وأهمها الجهل في الأحكام الشرعية الذي يُعدُّ من أخطرِ عواملِ التأثر السلبي لدى الأفراد بشكلٍ عامٍ، والشباب بشكلٍ خاص، فلو تعرف الشابُ على أحكامِ دينه لعرف ما يتوجّبُ عليه، ولميّزَ في حياتِه بين التأثر السلبي والتأثر الإيجابي؛ فكما هو معروفٌ أنّ هناك نوعين من التأثر؛ فمثلًا من يتأثرُ بشخصيةٍ غربيةٍ نتيجةً لما قدمته من علومٍ أو اختراعاتٍ وأفكارٍ علمية أفادت البشرية، فيتأثر الشابُ المسلمُ بها ويحاولُ أنْ يجتهدَ في الدراسة؛ كي يصلَ إلى ما وصلت إليه تلك الشخصية وهذا التأثر ممدوحٌ ولا بأس به، أمّا التأثر السلبي فهو ذلك الذي يؤدي بصاحبه إلى التشبه بمظهرِ وزي وتصرفاتِ الغرب التي تتعارضُ بطبيعةِ الحال مع قيمِنا وأخلاقِنا والتي غالبًا ما تكونُ مخالفةً للدين والشرع، ومغايرةً للعاداتِ والتقاليدِ السائدة. فيتوجبُ على المربين عامة وأولياء الأمور خاصة أنْ يحذِّروا الشباب من الانجرار وراء التقاليد الغربية؛ لأنّ تلك التقاليد وهذه المحاكاة هي بدايةُ النهاية، فيبدأ الشابُ بالتقليد الأعمى للمظاهر الغربية ثم ينجرُّ وراءَ الأفعال والأقوال إلى أنْ يقع فريسةً سهلةً لحبائلِ الشيطان ومكايده. ولذا تقعُ المسؤوليةُ علينا جميعًا في توعية الشباب توعيةً صالحةً؛ لأنّهم عمادُ الأمة وثورةُ الدولة وصناعُ الحضارة وبُناةُ الأوطان والأمجاد، كما أنّ رعايةَ وإعداد الشباب هي مسؤوليةٌ دينيةٌ ووطنيةٌ واجتماعيةٌ بحتة، ولا بُدّ من تظافرِ جهود جميع الجهات المسؤولة ضمن خططٍ وبرامجَ علميةٍ مدروسةٍ شاملةٍ، تشملُ الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة والدولة بكلِّ مؤسساتها ومرافقها المعنية بإعداد وتكوين الشباب. وتتضاعف هذه المسؤولية في هذا العصر الذي تزدادُ فيه المُغريات والعولمة والفضائيات يومًا بعد يوم، والتي باتت منتشرةً ومتاحةً للجميع، وكُلّما ازدادت شياعًا ورواجًا في المجتمع ازدادت الضرورة إلى توعيةِ شبابِنا وإرشادهم نحو الطريق الصحيح الذي يؤمّنُ لهم حياةً آمنةً مُطمئنةً بعيدةً كُلِّ البُعدِ عن مُغرياتِ الغربِ التي تؤدي بالإنسان إلى ما لا يُحمَدُ عُقباه.
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى