بقلم: زينب ضياء في الصحراء تائهة وسط رمال ولا شيء سواها، أجول بناظري لعل أجد مارًا يوصلني إلى أهلي، أقف وحيدة ومذهولة: هل لي نجاة؟ ما هذا الذي أنا فيه؟ أعرف أن هناك أملًا بسيطًا، لكن كيف أصل إليه بعد أن أُغلقت كافة الأبواب بوجهي، إلّا بابًا واحدًا، كيف أطرقه وذنبي يمنعني من الوصول إليه؟! أنا أعبد الله، وأشهد أنّ لا شريك له، لكن أعصيه في لحظات وأندم بعدها، أقف دائمًا حائرة في دنياي بين الطاعة والمعصية، أنبذ كل فاسق ومرتد وأغبط كل مؤمن خاشع. وسط في الدين لا أعرف ماذا أفعل، عندما لا يستجاب دعائي أتضايق وأيأس، كيف أدعوه وأنا غير خاشعة؟ لم أصلْ بعدُ إلى أعلى درجات الإيمان أُحاول جاهدة أن أكون خاشعة لكن بريق الدنيا يأخذني بعيدًا أحيانًا. أريد أن أدعو وأخاف أن دعائي لا يستجاب وأرد خائبة ووحيدة هنا في وسط الصحراء. بعد تردد كبير رفعت يدي إلى ربي ودعوته من كل قلبي، قلت: هذا دعائي الأخير بكل الأحوال، إن لم يستجب ربي لي سوف أموت هنا وأنتقل إلى هناك ويكون الحساب. أما إذا استجاب لي فأنا المخطئة وحاشى ربي أن يترك عبده… مرت ساعات ولا شيء يُذكر.. فقط الرمال، وخيّم الليل على الصحراء، واحتضنها كأنه أم تحتضن وليدها، عرفت أن هذه هي النهاية، وأغمضت عيني واستسلمت للموت! في لحظات لا أعرف هل هي حلم أم سراب، رجل غريب كبير السن يتوكأ على عصىً، يمر أمام عيني ولكنه لا يراني، صرخت بأعلى صوتي، ناديته، لكنه لم يسمعني... قررت اللحاق به راكضة، هو عجوز لكنه سريع جدً، بعد لحظات قليلة رأيت أهلي الذين فقدتهم منذ الصباح في هذه الصحراء. بقيت مندهشة كيف وصلت إلى هنا؟ ومَن هذا الرجل الذي ساعدني؟ استدرت لأسأله من هو؟ لكني لم أعثر عليه! فتشتت لكن بدون جدوى لم انتبه ورحت راكضة إلى أهلي. فرحت برؤيتهم وهم أيضًا، فقد قضوا يومًا كاملًا بالبحث عني، ركبت السيارة ورجعت إلى البيت، دخلت غرفتي ولا زلت أفكر بذلك الرجل من هو؟ خلعت معطفي فوقعت منه ورقة بيضاء (ابحثي عن الله بداخلك، سوف تجدينه بكل تأكيد، لا تترددي في أمورك، اختاري الله دائمًا، سوف تجدينه معك، ولا تترددي في الدعاء مهما كان الأمر، وانتظري الفرج من ربك وإذا لم يستجب دعاؤك فابحثي عن الأمر، هل هناك ذنب يمنع الدعاء؟ استغفري، أو لعل الأمر في غير صالحك، ولا تنسي، فلا يضيع شيء عند ربك، حتى الدعاء الذي لا يستجاب، سوف يعوضك الله عنه يوم الآخرة، واصبري في كل الأمور فإن بعد كل عسر يسرا، وباب التوبة مفتوح للجميع).
اخرىبقلم: مريم الخفاجي ينقل التاريخ عن حذيم بن بشير الأسدي قوله وهو يحكي حال عقيلة الهاشميين (عليها السلام) في السبي: "لَمْ أَرَ خَفِرَةً قَطُّ أَنْطَقَ مِنْهَا، كَأَنَّهَا تُفْرِغُ عَنْ لِسَانِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَ قَدْ أَوْمَأَتْ إِلَى النَّاسِ أَنِ اسْكُتُوا فَارْتَدَّتِ الْأَنْفَاسُ وَ سَكَتَتِ الْأَصْوَات" (١) لقد عبر حذيم بتعبير دقيق، وصف به كيان وشخص السيدة زينب الأنثوي الممزوج بقوتها القاهرة التي سيطرت على كل من كان يتواجد في تلك الحادثة، على اختلاف المكان والزّمان والظّروف، وتطرق إلى جوانب متعددة منها ما استهلّ به کلامه حیث قال: "لم أَرَ خَفِرَة" فما معنى (الخفرة)؟ أصل الكلمة في اللُّغة من "خفر" وقد أتت على عدة معانِِ منها: المرأة شديدة الحياء (۲)، والمُتعَبة (۳)، ويقال: خفير القوم أي مجيرهم (٤). ولابد من الوقوف عند كل معنى من المعاني: أولها: وأشهرها "شِدّة الحَياء" لو افترضنا أن حذيم أراد بقوله هذا المعنى والذي هو مما لاشكّ فيه، فهو معنى يتبادر للذّهن كلما جيء بذكر بنت أمير المؤمنين (علیهما السلام) فهي لاشك سيّدة الحياء فهذا يعني أمور: ▪️أن السّمة الغالبة على شخصيّة السيدة زينب بنت علي (علیهما السلام) هي شدة الحياء، رغم أنها كانت قد ناهزت الخمسين ونيّف من العمر. ▪️أن شدّة الحياء عند السيدة زينب (علیها السلام) لم يتناف مع قول الحق، ونقل الرسالة السّماوية إلى النّاس، والوقوف بوجه الظالم، فهو نوع من القوة الإيمانية، وبذلك بیّنت (سلام الله عليها) كيف يمكن للحياء أن يتجانس مع الحق و الدفاع عنه، وأنه لا يعني السكوت والخنوع والصمت. ▪️ أن شدة الحياء لا يعني الانكسار أو الضعف كما يحاول البعض أن يصوّره، بل هو معنى يكمن في داخله عدم الانكسار، وقد أثبتت (سلام الله عليها) أنه جانب من جوانب الشخصية القوية، الذي تحتاجه المرأة لتكون فاعلة في المجتمع، ممهدة لمولاها، ومنتجة لمن يأتي بعدها. ثانيها: "المتعبة". وإن كان المراد بالقول "المُتعَبة" بافتراض أنه تكلم عنها في وقت قد أُنهکت قواها، بعد قتل أهلها وسبيها وضربها، فهو دلالة واضحة على أنها ورغم شدة التّعب والألم والأسر والوحدة وثقل المسؤولية، إلا أنها دافعت وبيّنت ووضحت وجاهدت ولم يثنها التعب عن أداء تكليفها. فضلًا عن أن هذا المعنى يبين طبيعة مصابها (سلام الله عليها) فهي الثكلى، الفاقدة، الأسيرة، المضروبة بالسياط، المحامية والمتفانية في ذلك من أجل إمام زمانها، مع كل ذلك بقيت صامدة تتكلم بلسانِِ فصيح يشبه لسان علي بن أبي طالب (عليه السلام) البطل الشجاع المقداد الكرار في الحروب المُهين للظَلَمة، ولم تتأثر شخصيتها بتعبِِ و إنهاك، ولهف نفسي أي تعب! بل بقيت متوازنة طوال المسير، وهو درس عظيم تستلهمه المرأة لتجابه به كل متاعب هذه الحياة، وأن لا تتحجج بقسوة الظروف فتستهين بمبادئها وأهدافها وحجابها وسترها. ثالثها: "مجيرة القوم": ولو افترضنا أن الواصف أراد بقوله المعنى الثالث، فسيكون بيانًا عن عظم المسؤولية التي كانت تتحملها زينب (سلام الله عليها)، وبشاعة ما حصل لها في كربلاء، حيث إنها بعد ذاك العز الذي كانت فيه، فقدت رجالاتها وأعمدة أسرتها، فأصبحت في ظهيرة مؤلمة هي المجير لأرامل وثكالى وأيتام، والحامية لوليّ من أولياء الله من كيد الأعداء، وهي مهمّة جبّارة، تحتاج للقيام بها إلى وعي وصبر وحكمة وإحكام في التصرفات، فكيف لامرأة مفجوعة أن تتولى هذا المنصب الحساس و الخطير؟ ومع ما تعرضت له (سلام الله عليها) يبدو أن كل المعاني تصدق عليها في آن واحد، فهي المرأة ذات الحياء الشّديد والمتعبة، والمحامية للرسالة والولاية والنهضة الحسينية، التي لم يثنها أو يقف أي حال من الأحوال التي مرت بها دون فضح بشاعة ما حصل في كربلاء، وبشاعة ما ارتكبه أعداء الله، وعن إزاحة الستار عن كل جرائمهم، فضلًا عن توبيخهم وتصغيرهم وتقريعهم بوقفة قوية وبلُغة بَلِيغة. وكأن حذيم يرسم صورة من صُوَر التأثير القوي الذي كانت تمتلكه السيدة زينب بنت علي (علیهما السلام) على الرغم من الحالة التي تعيشها والوضع المتردّي والسيء الذي كانت فيه، فليس لهذه الشهادة لزينب (سلام الله عليها) معنى إلّا معنى القوة ورباطة الجأش، خصوصًا أنها لم تكن تخرج للناس من قبل، فهي المخدرة المُصانة التي کان يتسابق آل هاشم على خدمتها، فمن أين لها كل هذا التأثير الذي تعاملت به مع الناس؟ فتمتلك بإيمائة وحركة بسيطة من يدها الشريفة قُدرة إسكات كل الحاضرين حيث قال واصفًا الحال: "قَدْ أَوْمَأَتْ إِلَى النَّاسِ أَنِ اسْكُتُوا فَارْتَدَّتِ الْأَنْفَاسُ وَسَكَتَتِ الْأَصْوَات" لتفصح هي عن ما تحمل بلسان فصيح صادق ينطق بالحق، وبوقفة تحمل كامل الصمود والثبات؟! لكنها حصلت على كل ذلك التأثير من خلال: ▪️التأييد والتسديد الإلهي. ولا شك أن شيئًا من هذا التأييد والتسديد الإلهي هو تمكين للسيدة زينب (عليها السلام) من قلوب وعقول البشر من خلال ولاية تكوينية خصّت بها دون غیرها من کثیر من النساء ▪️الإيمان الراسخ بأحقيّة القضیة التي كانت تدافع من أجلها. ▪️العمل والإرادة المنطلقة من التوكل على الله والمعرفة بدينه، والثقة بأوامره، وعدم التزلزل الذي يصدر من كلام المشككين. ومن هذا الموقف بحد ذاته نستنتج عنصر القوة الذي امتلكته والذي امتزج ونمّ عن إيمان راسخ، وهي رسالة لكل امرأة، بل لكل إنسان يريد إقامة الحق الإلهي في العالم على مرور الأزمنة، وكأنها (سلام الله عليها) تعطي شفرات ذكية فعّالة من خلالها يمكن التعامل مع المواقف مهما كانت شديدة ومؤلمة، بل وتربّي النّفس المؤمنة على أن تصنع من الألم والظلم الذي تتعرض له آفاق نور تضيء بها العالم والأرواح، وتكتسب قوة إضافية تصل من خلالها حيث الحقيقة. ________________ [1] المفيد، محمد بن محمد، الأمالي، تحقيق: استاد ولي,غفاري علي اكبر, مؤتمر الشيخ المفيد، قم،١٤١٣هـ، الأولى، ص٣٢٠/المجلسي، محمد باقربن محمد تقي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ١٤٠٣ه، الثانية، ج٤٥، ص١٦٤. [2] البدري, عادل عبد الرحمن، نزهة النظر في غريب النهج والأثر،ط الاولى، ١٤٢١هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، إيران،ص١٩٩. [3] المقري الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج١،ص١٧٥. [4] الفراهيدي، خليل بن أحمد، كتاب العين، منشورات الهجرة، ١٤١٠ه، الثانية، قم، ج٤،ص٢٥٣.
اخرىبقلم: كوناي البياتي الشيطان يقيم مسرحية... يوزع بطاقات مزيفة، ويقدم نصه الإغوائي على خشبة معتمة من الوهم... نعم... سيوهمهم أن المسرحية سماوية، وأنه يبث رضا الله تعالى، تم يتناول فكرته الصريحة والتي هي: غرس أفكار في أذهان الحاضرين بأن الله (عز وجل) عدو لهم! خطته الأساسية هي سلب عقول الجمهور، بقطرة من شراب حب الدنيا... وينقسم الجمهور بين واقف ينوي المغادرة وبين جالس متردد، وبين مسترخ متمدد. وتتمحور شخصيات المسرحية بين: ١- شاب ثمل يحمل كأسًا ٢- وشاب آخر طويل القامة بحيث لا يرى أمامه... ٣- وبين طفل ملائكي كرسالة محمد... ٤- وامرأة محجبة ... ٥- وشاب قلبه يريد السماء ... ٦- وهنالك ستار خلفه رجل يقرأ كتابًا لم يعرف الجمهور كنهه... يعتقد الجمهور أنه يتلو آيات الله (عز وجل)... فيبدأ الصراع بين الشخصيات... الشاب الثمل يخاطب الجمهور فيقول: عيشوا ترنحوا اشربوا، فإنه ليس بإثم، بل هو جالب سعادة وممحاة للهَمّ... فيقطعه الطفل ببكائه.. الشاب الثمل يغضب! فيسكب الكأس على رأس الطفل! فيندهش الجمهور! لأن داخل الكأس لم يكن خمرًا... المرأة تحاول إبعاد الطفل لكي لا يتأذى... فيضرب الثمل المرأة على رأسها ضربة تفقدها وعيها، فتخلع حجابها بنفسها، وهنا يتدخل الشاب لينقذ المرأة... فيبدأ صياح المرأة باتهام الشاب بنزع حجابها... فيستغرب الجمهور لماذا لم يتحرك الرجل الدي خلف الستار، هل قراءة القرآن أولى من تبيان الحقيقة؟ ثم يحضر الأوركسترا التي هي مجموعة من الأبالسة العازفين على أوتار الوسوسة مع آلات النفخ الشيطاني وآلات نقر الأفكار... يبدأ الشيطان بعزف سمفونيته العالمية (الإلحاد)... ويطلق سمفونيته الحديثة ... سيصفق الجميع ... ويبدؤون بتعداد مصائبهم وشكواهم، ويعدّون الله –حاشاه جل وعلا- مقصرًا معهم، ثم يبدأ مهمته، ليسلب عقولهم في لحنه الهادئ ... سيوهمهم بأن العطاء مستمر من قبله... سيوسوس لهم أن الضمير حاله كحال العضو (الزائد) لا حاجة لوجوده ولا مضرة لعدمه... ثم... يختم مسرحيته بتعريف نفسه... ويردد : أنا الذي قلت: لا، فأصبحت خالدًا! وماذا عنكم أهل التوحيد والعبادة؟ وأما عني فأصبحت وأمسيت متواجدًا... ثم يضج المسرح بالتصفيق... لإعلان نهاية المسرحية! التي تفنن بإخراجها الشيطان... ثم يقف الشيطان على خشبة المسرح... ليشكر الجمهور لتقبّلهم سمفونيته الملحدة... وهنا يخرج الطفل عن النص ببكائه العفيف... ليتلو الآية (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فيسقط إبليس... وتسقط صفقته الدنيئة... ليعلن عن عظمة الله، وعفة يوسف فيتحول من مسرحية الشيطان إلى مسرح إلهي وجمهور مدين لله…
اخرىبقلم: علوية الحسيني تعالَي إنّ المتأملة في حديثٍ مرويٍ عن الإمام علي (عليه السلام)، ما نصّه: "خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل، فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرقت من كل شيء يعرض لها" (1) تجده حديثًا جاءَ مشخصًا لحالة تعالي النساء على الرجال الأجانب تعاملاً. لكن هذا التعالي لا يعني أصالة اتصاف المرأة بالأخلاق السيئة كالتعالي والغرور على أرحامها وبني جنسها؛ بل هو مورد حصر في التعامل مع الرجال الأجانب. والمتتبعة لنهج السيّدة زينب (عليها السلام) تجد أنّها (عليها السلام) حينما دخلت مع السبايا على مجلس الطاغيتين (عليهما اللعنة) دخلت متعالية عن مخاطبتهما (متنكرة)، شامخة، واثقة النفس، شديدة العزم، رغم الفجائع التي مرّت بها. لا، بل تجد أنّ السيّدة (عليها السلام) قد رسمت مراحل التعالي المتمثلة بأربع مراحل: سكوتٌ، ثم تلميحٌ، ثم تصريح، ثم إعراض، هذا للتعالي غير المطلق، أمّا المطلق منه فلا مراحل فيه، وسيتم بيان ذلك في نقطتين مستقلتين. ■النقطة الاولى: التعالي غير المطلق ومراحله: 1- تعالي بالسكوت: وما يؤيد ذلك كتب التاريخ (2) المفجعة الناقلة للمآسي التي جرت على حرائر آل محمد (عليه وعليهن السلام)، فتذكر تلك الكتب أنّ تلك الحرائر قد أُدخلنَ على مجلس الطاغية ابن زياد (عليه اللعنة)، وكانت السيّدة زينب (عليها السلام) حين دخولها ذات جسدٍ متصدع، وقلبٍ متلوع؛ مما رأته من جسيم الفواجع، ولكنها لاذت بكل بكبرياءٍ واضح، وعزة نفس، وعلو حسب، وشرافة نسب، فجلست "مــتنكرة ...، منتحية ناحية من القاعة تحف بها اماؤها". وما جلوسها في ناحيةٍ إلاّ دليل على تعاليها على اللعين وشرذمته، إلاّ أنّ اللعين يبدو أنّه قد اكتسى بثوب الذلة حينما تجاهلت أصـل وجوده، بل وسؤاله امرأة سبية، "فنظر اللعين ابن زياد إلى الحاضرين أمامه، وتفحص كلاًّ منهم بنظرة، ثم تساءل عن هذه المنحازة وحدها ومعها نساؤها وهي شامخة الرأس عالية، فلم تجبه العقيلة السيدة زينب، فأعاد تساؤله ثلاثًا دون أن ترد عليه، فقال[ت] بعض امائها، هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وبنت الإمام علي عليه السلام". لعمري ما أصعبه من موقفٍ على اللعين ابن زياد وقد مسحت كرامته أرضًا بـــسكوتٍ من أميرة الكلام (عليه السلام)، فكيف به لو تكلّمَت؟ ولهذا كان لتــعاليها -سكوتها- (عليها السلام) ردّة فعلٍ من ذلك اللعين "فقال متشفيًا فيها: ـ الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم". 2- تعالي بالتلميح: هــنا اقتضت الضرورة أن تتكلم السيّدة ببليغ الكلام، مع الحفاظ على شموخ المقام "فردت عليه العقيلة السيدة زينب عليها السلام بكل إباء... وترفُع: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلى الله عليه وآله، وطهرنا من الرجس تطهيرًا، إنّما يُفتضح الفاجر ويكذَّب الفاسق وهو غيرنا". وفي عبارتها (وهو غيرنا) تلميحٌ جعل من ابن زياد ينطق بعبارات الكفر والزندقة بمحاولته اتهام الله سبحانه وتعالى بما جرى على الحسين وآل الحسين (عليه السلام)، "فلم يصبر اللعين بن زياد على قولها، بل رد عليها قائلاً: ـ كيف رأيتِ صنع الله في أهل بيتك وأخيك؟". 3- تعالي بالتصريح: فهنا كان جوابها تصريحًا مقتصًا من اللعين على سوء أدبه مع الله تعالى بنسبة الظلم لله (عزّ وجل)؛ ولهذا فإن جوابها لم يخرج عن حدود بيان عدل الله تعالى، ولم يكن دفاعًا عن أخيها الحسين (عليه السلام) فحسب، فغضبت لذات الله تعالى بدايةً، فقالت: "ما رأيت إلاّ خيراً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك ويبنهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة". وتذكر كتب التاريخ حال ابن زياد بعد هذا الموقف تحديداً وشدّة الحرج الذي وقع فيه وأنّه استثار غضباً، وحاول أحد شرذمته اخماد غضب اللعين، واصفاً السيّدة زينب (عليها السلام) بأنّها لا منطق لها، وأن كلامها فاسد! حيث "قال له [لابن زياد] عمرو بن حريث: إنّما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها، إنّها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل". لكن شيطان الإنس ابن زياد شعر بانحطاط مكانته في أعين الحاضرين وأصرّ على الكلام فقال: "لقد شفي الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك". 4- تعالي بالإعراض: تصرفت السيدة زينب (عليها السلام) بالإعراض عن الجاهل أمام عبارات الزندقة الصادرة من اللعين مرة اخرى باتهام الله تعالى بالقتل، فقالت: "لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي، فان كان في هذا شفاؤك فلقد اشتفيت". لكن اللعين ابن زياد أخذ يتكلّم والسيّدة زينب (عليها لسلام) متعالية عن الرد عليه، حتى بدأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالكلام. وفي مجلس الطاغية يزيد (عليه اللعنة) حيث الضرورة جعلتها تعرّف الناس حقيقة يزيد وأتباعه، فتكلمت هي وابن أخيها (عليهما السلام). "لقد شاهدت السيّدة زينب الكبرى (عليها السّلام) في مجلس يزيد مشاهد وقضايا، وسمعت من يزيد كلمات تعتبر من أشدّ أنواع الإهانة والاستخفاف بالمقدّسات، وأقبح أشكال الاستهزاء بالمعتقدات الدينيّة، وأبشع مظاهر الدناءة واللؤم في تصرفاته الحاقدة. مظاهر وكلمات ينكشف منها إلحاد يزيد وزندقته، وإنكاره لأهمّ المعتقدات الإسلاميّة . مضافاً إلى ذلك: أنّ يزيد قام بجريمة كبرى، وهي أنّه وضع رأس الإمام الحسين (عليه السّلام) أمامه، وبدأ يضرب بالعصا على شفتيه وأسنانه ، وهو حينذاك يشرب الخمر" (3). فخطبت متعاليــة، متجبرة، مهيمنة، عفيفة، لا تخشى ظلم الحاكم وحاشيته. ■النقطة الثانية: التعالي المطلق أي إنّ التعالي لا مراحل له، ومورد تطبيقه في غير حالات الضرورة المقتضية لأحد المراحل، ومثاله تعالي السيّدة زينب (عليها السلام) عن الكلام مع الرجال الأجانب أثناء المسير إلى الشام، حيث كان الإمام السجاد (عليه السلام) يردّ على الشامتين، فلما جيء بالسبايا إلى الشام قام رجل على درج دمشق وقال: الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم. فقال له علي السجاد (عليه السلام): أقرأت القرآن؟ قال: نعم... قال : أما قرأت: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}؟ قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وبـهذا كانت السيّدة زينب (عليها السلام) في معرضٍ عن الرد عن أمثال هذا من أنصار يزيد. والخلاصة: من هذا نفهم وجوب التعالي عمّا لا يجب التساهل فيه، فتكبركِ اليوم عن التعامل الذي يهتك القيود مع الأجانب -أقاربًا كانوا أو غيرهم- هو تعالٍ ممدوح؛ ففيه النجاة، بعكس ما لو تساهلتِ في التعامل معهم بلا ضوابط شرعية. فتعالي عن التساهل في التعامل مع كل من هو غير محرم عليكِ ابتداءً بأبناء العم، وأبناء الخال، وزوج الأخت، وأخ الزوج، والبائع، والسائق، وغيرهم. ولستُ بصدد بيان الحكم الشرعي؛ لبداهته عندكِ أيّتها المؤمنة، والتقوى فوق الفتوى. ________________ (1) نهج البلاغة: الحكمة 234. (2) زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، 347-348. (3) المصدر نفسه، ص392. سكوتٌ ثم تلميحٌ ثم تصريحٌ ثم إعراض ... فهلّا تعاليتِ؟
المرأة بين الإسلام والغرببقلم: دينا فؤاد الحلقة الثالثة تكملة الأبعاد العقائدية في دعاء طلب تفريج الهموم والغموم 2- الترسيخ الروحي والعقدي لقضية أهل البيت (عليهم السلام): لقد أكدت الزهراء (عليها السلام) على قضية أهل البيت لأهميتها البالغة، فالتوجه إلى الرسول وأهل بيته (عليهم سلام الله أجمعين) ــ الذي هو وسيلة وشرط في التوجه لله عز وجل ــ إنما يكون بالتوجه الروحي والعقدي، ولا يتم هذا التوجه ما لم تكن هناك معرفة واعتقاد بصاحب التوجه، وهذا بدوره يستلزم معرفة ولو إجمالية لهؤلاء النخبة التي انتخبها الله لعباده، وقرن طاعته بطاعتهم، كما في قوله جل وعلا: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. (47) لقد بيّنت الزهراء (عليها السلام) بأن قضية الرسول وأهل بيته ليست قضية عادية، ومجرد ألفاظ يذكرها المتكلم، بل هي قضية عقائدية بحتة تحتاج إلى نظر وتمحيص، حيث إن نفس التوجه للنبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) هو شرط زائد على الإيمان بهم، وإن الإيمان مقرون بالمعرفة الحقة لهم، فهم خلفاء الله على أرضه، وبهم يصان الدين، وتقام الشرائع. وإن وجودهم (سلام الله عليهم) هو لطف إلهي على العباد، وهو ما يقربهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، ورفع الظلم والفساد، وإحلال الأمن والأمان. (48) وقد أشارت السيدة فاطمة (عليها السلام) إلى هذه الأمور، في دعائها في عدة مواضع، منها: "أتوسل إليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك"، و"أسألك ...، وبحق محمد وآل محمد"، و"وتسمع محمداً وعلياً وفاطمة ... صوتي فيشفعوا لي إليك وتشفعهم فيِّ"، و"بحق محمد وآل محمد ...يا كريم". 3- التأكيد على السؤال بالأسماء الحسنى والاسم الأعظم: لقد كان هناك تكرار من قبل السيدة الزهراء (عليها السلام) في دعائها للأسماء الحسنى بصورة عامة والاسم الأعظم بصورة خاصة، فقد كررت (سلام الله عليها) لفظ الأسماء والاسم الأعظم (8) مرات، ولا شك في أن يكون هناك قصد من التكرار لأسماء الله تعالى. أن هذا التكرار جاء من أجل بيان أن لهذه الأسماء أسرارًا، فالأسماء الإلهية والاسم الأعظم خاصة لها تأثيرات كونية، ويعد السؤال بها من أهم الوسائط والأسباب التي تنزل الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود (49)، وهذا له دلالة على أن الله سبحانه وتعالى هو الموجد والفاعل لكل شيء، وعلى هذا يجب أن يكون الدعاء والطلب منه وحده لا من غيره، قال تعالى: {أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعانِ}. (50) وهناك التفاتة مهمة أرادت الزهراء (سلام الله عليها) بيانها، وهي أن الدعاء بالأسماء الإلهية يحتاج إلى معرفة، فهي ليست مجرد ألفاظ يرددها الداعي بلسانه، بل هي حقائق حاوية لمعان لا يعلمها إلّا أولي العلم، وهم اهل بيت النبوة، المعصومون الأربعة (عليهم الصلاة والسلام)، فقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: "ان اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس، ثم تناول السرير يده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفاً وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم" (52) 4- اعلان الولاية التامة والمطلقة لأهل البيت (عليهم السلام) والبراءة من أعدائهم: معنى الولاية هنا: أن يجعل الإنسان المؤمن أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين يتولون جميع أموره، ويواليهم ويقتدي بهم في جميع شؤونه، لأنهم الأئمة المفترضون الطاعة من الخلق، وولايتهم تعني التمسك بالإمامة التي هي إحدى الأركان لأصول الدين. ومعنى البراءة من أعدائهم: أن يتبرأ المؤمن من جميع الذين نصبوا وأعلنوا العداء لهم. وهذان فرعان من فروع الدين، فهما من الضروريات اللازمة للمؤمن، والثابتة له بالأدلة القاطعة في الكتاب والسنة؛ لأنهما يعنيان الاعتقاد بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، والتولي للأئمة والتبري من أعدائهم هو كأي أمر اعتقادي لا يحتاج إلى حضوره أو حياته، بل يحتاج إلى الإيمان بهم بأنهم أئمة، والتولي والتبري وإن كانا من الفروع ولكن أصل معرفتهما من الأصول، فمحبة الأئمة وبغض أعدائهم هي من الأمور الركنية المتوقفة على معرفة نفس الأئمة والتي هي مصداق للولاية. (53) وهذا ما عبرت عنه الزهراء (عليها السلام) من خلال دعائها: "وأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تفرج عن محمد وآله، وتجعل فرجي مقروناً بفرجهم"، فقد دعت أن يكون فرج العبد مقترن بالفرج لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا يمثل الولاية الحقيقية للأئمة، والاقتداء بهم في جميع شؤونهم. 5- إيقاظ الفطرة السليمة في الناس: عندما خلق الله تعالى الإنسان أوجد في داخله الفطرة السليمة، وهي عبارة عن ذلك الشعور المغروس في النفس البشرية، وبشكل تكويني والذي أوجده في الإنسان هو الله سبحانه (54). وهذه الفطرة عبر عنها الله تعالى في محكم كتابة بالصبغة من خلال قوله: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} 55 وقد بيّن الإمام الصادق (عليه السلام) معنى الفطرة بجوابه حينما سُئل عنها بأنها: التوحيد والإسلام ومعرفة الله سبحانه. (56) لقد أردت فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن توقظ من خلال دعائها فطرة الناس التي اندثرت أو تهالكت بسبب غلبة الأهواء والغرائز، وتوجيه الناس نحو عظمة الله الخالق القادر على كل شيء، وأرادت أن تنبه الناس من الغفلة التي قد سكنوا إليها وهم غير منتبهين، بل هم سائرون في طاعة الدنيا، بعيدون عن الله سبحانه. وقد أكدت (عليها السلام) ذلك بقولها: "امسح ما بي يمينك الشافية، وانظر إليِّ بعينك الراحمة، وأدخلني في رحمتك الواسعة، واقبل إليِّ بوجهك الذي إذا أقبلت به على اسير فككته، وعلى ضال هديته، وعلى جائز أديته، وعلى فقير أغنيته، وعلى ضعيف قوّيته، وعلى خائف امنته، ...يا من سدَّ الهواء بالسماء، وكبس الأرض على الماء"، كل هذه الجمل في الحقيقة هي ألطاف لا يقدر على تحقيقها غير الله القادر، هو وحده وليس غيره، فإذا ما تمعن الإنسان بقدرته سبحانه حال عن غيره، والتجأ له، وعبده حق عبادته. الخاتمة وأهم النتائج 1. إن الدعاء هو من أهم العبادات وأشرفها والتي يجب على المؤمن أن يتخلق بها ليتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى. 2. للدعاء أهمية بالغة أقرها الله عز وجل على عباده وجعله الوسيلة لتحقيق مطالبهم. 3. تعتبر السيدة الزهراء (سلام الله عليها) النموذج الكامل والمتكامل ذاتيًا وتربويًا، فهي مجمع للكمالات البشرية، وهي بنة وزوجة وأم للمعصومين (عليهم السلام). 4. إن للزهراء (عليها السلام) دورًا كبيرًا في التبليغ والإرشاد والوعظ للأمة الإسلامية مارسته في بطرق عديدة وأحدها هو الدعاء. 5. تمثل أدعية السيدة الزهراء (عليها السلام) مورداً فكرياً للفرد المؤمن في تحصيل المعرفة الحقة. 6. إن دعاء السيدة فاطمة (سلام الله عليها) ضم في طياته نوعين من الأدعية التي ذكرها القرآن الكريم وهما دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين. 7. اشتمال دعاء طلب تفريج الهموم والغموم على العديد من الأبعاد العقائدية التي أرادت الزهراء (عليها السلام) بيانها من خلال هذا الدعاء. 8. إن من النكت الدلالية في هذا الدعاء عقد العزم على التوكل بالله الواحد القادر في كل حاجة ومطلب. 9. افتتاح مستهل الدعاء بكلمة (اللهم) له دلالة على ابداء الخضوع والخشوع لله سبحانه القادر على قضاء الحاجة وتفريج الهموم والغموم. 10. توجيه النداء بدعاء الزهراء (عليها السلام) لله جل وعلا بـ اللهم وبالأسماء الحسنى وبالاسم الأعظم دلالة على تعظيم المدعو من قبل الداعي. 11. أكدت الزهراء (عليها السلام) أن حصول الدعاء والتوجه إلى الله تعالى لابد له من واسطة تتوسط في إجابة الدعاء بين العبد وربه، وهذه الواسطة هم الرسول وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام). 12. جاء التأكيد من قبل سيدة نساء العالمين بأن حصول التوجه الذي يكون سبباً للإجابة مقرون بمعرفتهم، فلابد من معرفة النخب التي انتخبها الله لعباده معرفة صحيحة ليحصل التوجه الصحيح المؤدي إلى الإجابة. 13. ان اختتام الدعاء بذكر صفة من الصفات الإلهية المهمة وهي الكريم يدل على تأكيد التوكل بالله عز وجل، والعزم على الدعاء الذي يقرب العبد إلى مولاه وتوكيد العلاقة بينهما. والحمد لله رب العالمين. _____________________ 47. سورة النساء، الآية: 59. 48. ينظر، السبحاني، جعفر، محاضرات في الإلهيات، ص347, 49. ينظر، الريشهري، محمد، موسوعة العقائد الإسلامية، ج3، ص467. 50. سورة البقرة، الآية: 186. 51. ينظر، الحيدري، كمال، التوحيد، ج2، ص372. 52. الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، ج1، ص228. 53. ينظر، بحر العلوم، محمد علي، الإمامة الإلهية، ج1، ص425. 54. ينظر، الخوئي، أبو القاسم، بحوث عقائدية، ص26. 55. سورة البقرة، الآية: 138. 56. ينظر، الكليني، الكافي، ج2، ص12، ح1ــ3.
اخرىبقلم: دينا فؤاد الحلقة الثانية المبحث الثاني الأبعاد العقائدية في دعاء طلب تفريج الهموم والغموم مفهوم الأبعاد العقائدية في اللغة والاصطلاح الأبعاد لغة: (جمع بُعد، والبعد: اتساع المدى. أبعاد مسألة: أهمية، مظاهر عمليّة). (39) والعقيدة في اللغة: (العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو: عقد البيع، العهد، وغيرهما، كقوله تعالى: {عقدت إيمانكم} (40). (41) وأما العقيدة اصطلاحاً: (هي القاعدة الفكرية التي ينطلق منها الإنسان إلى الحياة، لأنها ترسم له خارطة تحركه الحضاري وفق نظام حياتي عملي ناجح يقوده في النهاية إلى ما ينشد من الكمال اللائق به). 42 دعاء طلب تفريج الهموم والغموم في الصحيفة الفاطمية تعد الصحيفة الفاطمية إحدى الآثار الدعائية المهمة، والتي يعجز عن بيانها فطاحل البلغاء، وهي إحدى الموسوعات الدعائية المهمة بالإضافة إلى الصحيفة العلوية والسجادية، وقد اعتبرت الصحيفة الفاطمية من أشرف الصحف، وقد قام الكرام الكاتبون بتسجيلها في كتبهم المطبوعة. (43) ويعد دعاء طلب تفريج الهموم والغموم أحد أدعية الصحيفة الفاطمية، وعند التأمل في هذا الدعاء نجد الكثير من الأبعاد العقائدية، وفيما يلي نص الدعاء: " اللهم إني أتوجه إليك بهم، وأتوسل إليك بحقهم العظيم، الذي لا يعلم كُنهه سواك، وبحق من حقهُ عندك عظيمٌ، وبأسمائك الحسنى وكلماتك التامات التي أمرتني أن أدعوك بها، وأسألك باسمك العظيم الذي أمرت إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يدعو به الطير فأجبته. وباسمك العظيم الذي قلت للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فكانت، وبأحب اسمائك إليك، وأشرفها عندك، وأعظمها لديك وأسرعها إجابة، وأنجحها طلبة، وبما أنت أهلهُ ومستحقهُ ومستوجبهُ وأتوسلُ إليك، وأرغبُ إليك، وأتصدقُ منك، وأستغفرك وأستمنحك، وأتضرعُ إليك يديك،، وأسألك وأخضع بين وأخشع لك وأقر لك بسوء صنيعتي، وأتملقك وألح عليك، بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك، صلواتك عليهم أجمعين، من التوراة والإنجيل والقرآن العظيم، من أولها إلى أخرها، فإن فيها اسمك الأعظم، وبما فيها من أسمائك العظمى أتقرب إليك، وأسألك أن تصلي على محمد وآله، وأن تفرج عن محمد وآله وتجعل فرجي مقروناً بفرجهم (وتقدمهم في كل خير) وتبدأ بهم فيه، وتفتح أبواب السماء لدعائي في هذا اليوم، وتأذن في هذا اليوم وهذه الليلة بفرجي، وإعطائي سؤالي وأملي في الدنيا، فقد مسني الفقر، ونالني الضر، وسلمتني الخصاصة وألجأتني الحاجة، وتوسمت بالذلة، وغلبتني المسكنة، وحقت عليّ الكلمة، وأحاطت بي الخطيئة، وهذا الوقت الذي وعدت أوليائك فيه الإجابة. فصل على محمد وآله، وأمسح ما بي بيمينك الشافية، وأنظر إلي بعينك الراحمة، وادخلني في رحمتك الواسعة، واقبل إلي بوجهك الذي إذا أقبلت به على أسير فككته، وعلى ضال هديته، وعلى جائز أديته، وعلى فقير أغنيته، وعلى ضعيف قويته، وعلى خائف أمنته، ولا تخلني لقاء عدوك وعدوي، يا ذا الجلال والاكرام. يا من لا يعلم كيف هو، وحيث هو وقدرته إلا هو، يا من سد الهواء بالسماء، وكبس الأرض على الماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، يا من سمى نفسه بالاسم الذي به تقضى حاجة كل طالب يدعوه به. وأسألك بذلك الاسم، فلا شفيع أقوى لي منه، وبحق محمد وآله محمد (أسألك) أن تصلي على محمد وآل محمد، وان تقضي لي حوائجي، وتسمع محمداً وعلياً وفاطمة، والحسن والحسين وعلياً ومحمداً، وجعفراً وموسى، وعلياً ومحمداً وعلياً، والحسن والحجة ــ صلواتك عليهم وبركاتك ورحمتك ــ صوتي، فيشفعوا لي إليك وتشفعهم في، ولا تردني خائباً، بحق لا إله إلا أنت، وبحق محمد وآل محمد، وأفعل بي "كذا وكذا" يا كريم. (44) الأبعاد العقائدية في دعاء طلب تفريج الهموم والغموم هناك العديد من الأبعاد العقائدية في دعاء طلب تفريج الهموم والغموم للسيدة الزهراء (عليها السلام)، وفيما يلي توضيح لبعض هذه الأبعاد. 1- التأكيد على أن التوسل عبادة توحيدية: الذي نريد أن نثبته في هذا البعد هو أن التوسل والتوجه بالوسائل والوسائط التي جعلها الله لخلقه هو التوحيد التام، فالتوحيد التام يكون من خلال انصياع العبد وخضوعه أمام الأبواب التي جعلها واسطة بينه وبين العبد. (45) وهذا ما أكدته الزهراء (عليها السلام) في دعائها، حيث ابتدأت مستهل الدعاء "اللهم إني أتوجه إليك بهم، وأتوسل إليك بحقهم العظيم"، فالتوجه والتوسل بالواسطة التي نصبها الله لخلقه (الرسول وأهل بيته) هو التوحيد التام، فبهم يقبل الدعاء، وبواسطتهم تقع الإجابة. وهناك الكثير من الأدلة القرآنية الدالة على أن التوجه والتوسل بالوسيلة الذي جعلها الله للبشر، ومنها قوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} (46)، فالله سبحانه قرن قبول الاستغفار والمجيء إليه بالمجيء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأئمة أهل البيت هم نفس الرسول، فيكون المجيء إلى الأئمة وتقديم في الدعاء هو المجيء لله تعالى، فتقبل هذه العبادة أي الدعاء، وتستجاب دعوة صاحبها. 2- الترسيخ الروحي والعقدي لقضية أهل البيت (عليهم السلام): يأتي في الحلقة التالية إن شاء الله تعالى. _______________ 39. العطية، مروان، معجم المعاني الجامع، مادة أبعاد. 40. سورة النساء، الآية: 33. 41. الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة عقد. 42. طارق محمد علي، عقائدنا الواجب معرفتها على كل مؤمن، ح2، ص4. 43. ينظر، الكجوري، الخصائص الفاطمية، ص43. 44. محمد باقر مرتضى، الصحيفة الجامعة لأدعية سيدة نساء العالمين، ص24ـ26. 45. ينظر، التميمي، قيصر، الإمامة الإلهية، ج4، ص30. 46. سورة النساء، الآية: 64.
اخرىبقلم: دينا فؤاد الحلقة الأولى المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الغر الميامين. أما بعد... من المعلوم أن الكلام عن دعاء السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يعني الكلام الذي تضمن واشتمل على معانٍ عظيمة للمرأة التي احتلت لقب سيدة النساء للعالمين من الأولين والأخرين، فقد كانت الزهراء (عليها السلام) الجوهرة التي صيغت شخصيتها وصقلت في بيت النبوة والإمامة، في البيوت التي ذكرها الله تعالى بقوله: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ فيها بالغُدُوِّ وَالآصَالِ}. (1) وسنحاول من خلال هذا البحث الموسوم بـ (الأبعاد العقائدية في أدعية الزهراء (عليها السلام) دعاء طلب تفريج الهموم والغموم نموذجاً) بيان جملة من الأبعاد العقائدية في هذا الدعاء الذي دعت به المحور والقطب الجامع لرحى النبوة والإمامة، حيث أن له من الأهمية المغيبة عن الأنظار، وليست الأهمية في هذا الدعاء فقط، بل في كل دعاء وخطبة صدحت بها حنجرة البضعة الطاهرة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فالدعاء لم يكن مجرد كلام لغوي ينطق، وإنما هو عبائر ومداليل لها أبعاد ومصاديق مقصودة. وقد تناول هذا البحث دراسة لأهم الأبعاد العقائدية التي تستخلص من دعاء الزهراء (عليها السلام) لطلب تفريج الهموم والغموم حيث ان هناك حاجة ماسة في وقتنا الحالي لهذا الدعاء للظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا، وقراءة الدعاء قراءة عابرة بدون فهم العبارات، لن يولّد الإحساس والتوجه الحقيقي للقاضي للحاجات الخالق القادر، فإذن لابد ان تكون هناك معرفة ولو إجمالية لمضامين الدعاء. التمهيد: أهمية دعاء الزهراء (عليها السلام) من المعلوم ان النتاج الفكري الكبير للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد ضم في طياته العديد من المواضيع، والتي تناولتها بأسلوبها الخاص من خلال الدعاء والذي يُعرف بأنه سلاح المؤمن، حيث لا يوجد عبادة تقرب الإنسان إلى ربه أفضل من الدعاء، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله" (2). لقد طرقت أدعية الزهراء الباب لأنواع مختلفة من المواضيع، سواء أكانت عن الجانب السياسي أم الديني أم الاجتماعي أم غيرها. ولقد انتهجت الزهراء (عليها السلام) في أدعيتها منهاجاً خاصاً تُيسر للغير من خلاله انتهاج سلوكه والاقتداء به بأبسط الصور، فالكل بحاجة إلى الدعاء، وهذا الاحتياج هو الذي يمثل حلقة الاتصال بالله سبحانه، ومن منا لا يريد هذا الاتصال، ومن منا يعرف طرقه وأساليبه، ومن منا يحسن مناجاته سبحانه بتلك الكيفية من العبائر الموضوعة بأدق الألفاظ، وأجلّ المعاني المكنونة التي يعجز عن إعطاء وصفها البلغاء، وهذا ما جعل أدعيتها (عليها السلام) تحتل الأهمية البالغة كسائر أدعية المعصومين (عليهم السلام). المبحث الأول: الدعاء أهميته وأنواعه: مفهوم الدعاء في اللغة والاصطلاح الدعاء في اللغة: كلمة الدعاء في الأصل هي مصدر لقولك: دعوت الشيء أدعوه دعاءً، أي أن تميل الشيءَ إليك بصوت والكلام يكون منك (3) دعاه: صاح به واستدعاه، ودعوت الله له وعليه ادعوه دعاءً (4) وأصل الدعاء هو الطلب دعا - يدعو - ادعى، فقد جاء في القرآن الكريم: {تدعو من أدبر وتولى} (5)، (أي يأخذه بالعذاب كأنه يدعو إليه) (6). (والدعوة: المرة الواحدة، والدعاء: واحد الأدعية). (7) والدعاء اصطلاحاً: هو الكلام الموجه حصراً، حيث يطلب فيه العبد من ربه القبول والغفران والحاجة لأمرٍ ذي بال، وطلب القبول معتمد على توجه العبد وتخصيص للرب (8)، والدعاء هنا بمعنى السؤال بدليل قوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}. (9) لمحة عن تاريخ الدعاء لقد عاش الإنسان منذ بدء الخليقة وإلى حد الآن في أطوار مختلفة تكتنفها الصراعات التي تتداخل مع الحياة، وأيضاً الحاجات والرغبات التي لا تنتهي ولا تقف عند حد ما دام على قيد الحياة، فكانت له مطالب بالقضاء على الصراعات وسد الحاجات والرغبات والتغلب عليها، فكانت هناك العديد من الوسائل لكي يحيى الإنسان بسلام مع كل ما يحيط به من الظروف والملابسات، وهذه الوسائل أَخبر بها الله سبحانه على لسان أنبيائه، وكانت أرقى وأهم هذه الوسائل هي الدعاء، حيث إن الهدف منه إصلاح ذات البين بين العبد وربه، والطلب منه عز وجل خاصة، ودعاؤه بالسراء والضراء، والأهم من ذلك أنها مرضية للرب سبحانه (10)، يقول الله عز وجل في محكم كتابه: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلّا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون} (11)، فأصبحت المجتمعات البشرية تعتمد على الدعاء كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس. (12) فضل الدعاء في روايات المعصومين (عليهم السلام) هناك الكثير من الروايات والأخبار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) تحث على الدعاء وتبين فضيلته ووجوب التمسك به في كل الأحوال، ومنها: 1/الدعاء سلاح المؤمن: ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "الدعاء سلاح المؤمنين وعمود الدين ونور السماوات والأرض". (13) وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يقول لأصحابه: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء". (14) 2/الدعاء أفضل العبادة: جاء عن معاوية بن عمار أنه قال: قلت لأبي عبد الله: رجلين افتتحا الصلاة في ساعة واحدة، فتلا هذا القرآن، فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا أكثر، فكان دعاءه أكثر من تلاوته أيهما أفضل ...، فقال (عليه السلام): الدعاء أفضل، أما سمعت قول الله عز وجل: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (15)، هي والله العبادة، هي والله أفضل ...". (16) 3/الدعاء أحب الأعمال إلى الله: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "أحب الأعمال إلى الله سبحانه في الأرض الدعاء وأفضل العبادة العفاف ومنها أنه ينجي من الأعداء وأهل الشقاق ويفتح أبواب الأرزاق". (17) 4/الدعاء يغير القضاء: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر". (18) وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل م السماء وقد ابرم إبراماً". (19) 5/بالدعاء ينال الداعي الفضل والرحمة الإلهية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلا استحيا الله عز وجل أن يردها صفراً حتى يجعل فيهما من فضل رحمته ما يشاء. فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح على وجهه ورأسه". (20) القرآن والدعاء لقد ذُكر الدعاء في القرآن الكريم بصور وأشكال مختلفة، وسنقوم بتقسيمه إلى ثلاث صور: 1/دعاء الأنبياء في القرآن: عندما أرسل الله سبحانه أنبيائه إلى الناس جعلهم النموذج الكامل للإنسان البشري، لكي يُقتدى بهم، ويُطاعوا في أوامرهم التي هي أوامره سبحانه، فالأنبياء هم مثال الإنسانية والنموذج الأسمى في البصيرة والحكمة والأخلاق وإلى غير ذلك من الصفات التي توجب لهم الكمال الإنساني، وقد كانوا جميعاً متعلقين بأدب الدعاء (21)، وقد كان دعاؤهم على نوعين: النوع الأول: دعاء عام لهداية البشر إلى طاعة الله وعبادته ورحمتهم ووجوب شكرهم على نعمائه، وهناك أمثلة وردت في الكتاب الكريم، منها ما ورد على لسان نوح (عليه السلام): {قال رب أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} (22) ، ولسان إبراهيم (عليه السلام): {فاجعل أَفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشركون} (23)، وأيضاً قول إبراهيم: {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات}. (24) ومن هذا النوع ما كان الدعاء من الأنبياء على الناس وليس لأجلهم، بسبب إجرامهم وطغيانهم وفسادهم في الأرض، كما في قوله تعالى: {وقال نوح ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (25)، وكذلك قوله تعالى: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}. (26) النوع الثاني: وهو دعاء الأنبياء (عليهم السلام) لأنفسهم باعتبارهم بشر، فهم كغيرهم محتاجين إلى الرحمة الإلهية وكذلك الرزق وكل ما يتفضل به سبحانه هم في حاجته، كما في دعاء نوح (عليه السلام): {قال ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلّا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (27)، ودعاء إبراهيم (عليه السلام): {ربِّ هب لي من الصالحين}. (28) 2/دعاء الصالحين في القرآن: وهذا النوع من الدعاء يوجد في الكتاب الكريم بكثرة، ويمتاز باشتماله على كل مظاهر الخضوع والخشوع للخالق، واستشعار روح العبودية في نفس الداعي، كما في قوله تعالى: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} (29)، وقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ...}. (30) 3/دعاء الإنسان في القرآن: وكثيراً ما يقع هذا الدعاء نتيجة الغفلة والتهاون والرجاء والتمني مع قلة الأمل أو انعدامه في الإجابة، كما في قوله تعالى: {لولا أخرتنا} (31)، وقوله: {قال ربِّ ارجعون} (32)، وأيضاً قوله تعالى: {ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}. (33) دعاء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ان دعاء السيدة الزهراء (سلام الله عليها) هو مزيج ما بين دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين، فهي سليلة النبوة ومعدن الرسالة، فالزهراء تمثل الأنموذج الكامل والمتكامل ذاتياً وتربوياً، فقد تجمعت فيها سائر الكمالات البشرية، فهي ابنةٌ للمعصوم، وزوجةٌ للمعصوم، وأمٌ للمعصومين (عليهم سلام الله أجمعين). (34) وأيضاً هي كانت مهبط للملائكة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "سُميت فاطمة مُحدثة؛ لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين" (35)، فلابد أن تكون أدعيتها جامعة لكلا الطرفين (الأنبياء والصالحين)، فمن الخصائص التي خصصت بها فاطمة الزهراء (عليها السلام) تساويها مع بعض الأنبياء العظام، وهذا له دلالة على أفضليتها على نحو الإجمال. (36) لقد حرصت السيدة الزهراء كما حرص الرسول والأئمة (سلام الله عليهم) على توجيه الناس أصحاب الفطرة السليمة والإيمان الصادق بالاتجاه الذي يكونون من خلاله قادرين على الاتصال بالله تعالى، فحرصوا على تعليم الناس الدعاء لكي يسيروا على وفق خط ومنهج سليم بعيداً عن الثغرات التي تخترق الطريق، فكان الدعاء هو الوسيلة الحقيقية الباعثة في نفس الإنسان (قوة الإيمان والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرفه العبادة، ولذة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتلقنه ما يجب على الإنسان أن يصلحه لدينه، وما يقربه إلى الله تعالى زلفى، ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة) (37)، ولقد عُرف عن السيدة فاطمة الزهراء كثرة أدعيتها، حتى كان لها (سلام الله عليها) صحيفة أطلق عليها (الصحيفة الفاطمية)، ولهذه الصحيفة سمات عظيمة وجليلة، وخصائص متبعة، ومزايا رفيعة، وقد اختص بها الله أولياءه دون سواهم، حيث لا يوجد من يشاطرهم أحد مما خلق (38)، وهذا ما يدل على عظم وسمو منزلتها (عليها السلام) لقد أصبحت الأدعية الفاطمية ورداً يُتعبد به أغلب المؤمنين، فبالإضافة إلى ما حباها الله سبحانه به من خصائص وامتيازات، فقد امتازت أدعيتها (عليها السلام) بالآثار التربوية والنفسية والاجتماعية والتي لها الأثر البالغ في نفس الداعي، وهذا بحد ذاته تربية روحية للإنسان. _____________________ 1. سورة النور، الآية: 36. 2. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج93، ص293. 3. ينظر، أحمد بن فارس، مقاييس اللغة، ج2، ص279. 4. ينظر، الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، ج2، ص221. 5. سورة المعارج، الآية: 2. 6. أبو هلال الحسن بن عبد الله، الفروق اللغوية، 1421:3. 7. ابن عصفور، شرح جمل الزجاجي، ج2، ص540. 8. ينظر، مفتاح الفلاح، ص207. 9. سورة غافر، الآية: 60 10. ينظر، الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج7، ص264. 11. سورة الأعراف، الآية: 94. 12. ينظر، محمد حسين فضل الله، في رحاب الدعاء، ص15. 13. ابن طاووس، فلاح السائل، ص28. 14. الكليني، الكافي، ج2، ص468، ح3. 15. سورة غافر، الآية: 6. 16. الميرزا القمي، غنائم الأيام، ج3، ص92. 17. ابن طاووس، فلاح السائل، ص26. 18. الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، ص523. 19. الكليني، الكافي، ج2، ص469، ح3. 20. ن.م، ج2، ص471، ح2. 21. ينظر، حسين أنصاريان، شرح دعاء كميل، ص17. 22. سورة نوح، الآية: 5. 23. سورة إبراهيم، الآية: 37. 24. سورة البقرة، الآية: 126. 25. سورة نوح، الآية: 26. 26. سورة يونس، الآية: 88. 27. سورة هود، الآية: 47. 28. سورة الصافات، الآية: 100. 29. سورة الممتحنة، الآية: 4. 30. سورة البقرة، الآية: 286. 31. سورة النساء، الآية: 76. 32. سورة المؤمنون، الآية: 99. 33. سورة المنافقون، الآية: 10. 34. ينظر، مرتضى علي الحلي، الصديقة الزهراء الأسوة الحسنة، ص11. 35. الطبري الصغير الشيعي، دلائل الإمامة، ص81. 36. ينظر، الكجوري، محمد باقر، الخصائص الفاطمية، ج1، ص533. 37. المظفر، محمد رضا، عقائد الإمامية، ص89. 38. ينظر، رسمية عبد الكاظم الموسوي، مصحف فاطمة بين النفي والإثبات، ص60.
اخرىبقلم: وفاء لدماء الشهداء عندما يعتلي الأنين، ويفيض الشوق والحنين، أُمسكُ ورقتي؛ لأُسطر لك على خطوطها خواطري، وأناديك بكلماتي: اشتقت إليك يا سيدي، يا ملهمي وقائدي، فتقبل مني حروف يتيمة قد كواها ألم الفراق والغياب، وكل مناها أن تحظى برضاك يا أغلى من الأهل والأولاد والأحباب. سيدي أيها الموعود متى سينتهي ليل الانتظار؟ ويتألق نور محياك يا بن الطيبين الأطهار؟ كم كبد حرى ضاقت شوقًا لفيض نداك؟ وكم محب غيّبه الثرى قبل أن يكحل عينه ببهاء مرآك؟ كم دمعة حارقة ذرفت لتترجم حرارة الفقد ولوعة الابتعاد وعظم اللهفة لرؤياك؟ سيدي، لقد تعالت أصوات الظلم فمتى تخرسها بإعلاء رايتك؟ مولاي، لقد تعملق الظلام، فمتى تأتي لتنير الكون بمقدمك؟ يا حجة الله، لقد استأسد الباطل فمتى تسحقه بضياء طلعتك؟ ترى متى ستنعم الأرض بربيعك؟ ومتى نعيش آمنين سعداء تحت ظل دولتك ورعايتك؟ متى وألف متى نطلقها من أعماق أرواحنا التواقة للعدل والسلام، العطشى لتطبيق تعاليم السماء والحياة تحت ظلال الإسلام. مولاي أيها الأمل، ويتملّكنا في غمرة الشوق والإلحاح الخجل، من قول العجل؛ لأننا بحقك لا زلنا مقصرين، ولقلبك المثقل بالأحزان بسهام معاصينا وغفلتنا مسددين، ولكننا نعتمد على كرمك، ونغض الطرف عن سوء فعالنا اتكالًا على جميل عطائك، فننادي بأمل القلب الطامع بعطف سيده: عجّلْ فدتك نفسُ من أحبك. سيدي، بين الصمت والأنين، طيف يومك الميمون يرفرف على قلوب المنتظرين، وحبك يجري مع الدماء في الشرايين، وذكرك يتربع على عرش اللسان فتزهر الروح التي أضناها الشوق ويخضرُّ في جنباتها الياسمين. مولاي، على أرصفة الأمل يعتصرنا الألم فنناديك بلوعة المستغيثين، خذ بأيدينا، استنقذنا مما نحن فيه، أنر أبصارنا بضياء نظرها إليك، وظلل على قلوبنا بسحابة الطافك يا بن الأكرمين. سيدي، مهما طال زمن المغيب، سنبقى ننتظر صبح ظهورك القريب، ونترقب بزوغ شمس محياك بلهفة الواله الحبيب. سنبقى نُمنّي النفس بقرب الظهور، وتألق النور، وسنطوي مسافات الغياب المؤلم لنطرق بالبشرى كل الصدور، لنقول للجميع: إنه سيأتي ليضيء ظلام العصور. سيأتي متوهجًا كالشمس ليعيد الحياة للقلوب... سيأتي فتضاء بخطواته كل الدروب... سيأتي ليعيد ملامح الفرح التي اغتالتها سني العذاب والجور... سيأتي ليكفكف الدمع من العيون التي أَلِفَت الحزن والبكاء، ويبلسم بيد الأب الحاني جراح المؤمنين بعد طول غياب وعناء. سيأتي كغيث رحمة يتوالى من سحبها الماء، يجود بالخير والعطاء، فتهتز لقطرات عطفه الأرض، فتعود بألطافه خضراء، وتغدو القلوب بأنوار محبته نقية بيضاء. سيأتي كشمس يطارد سناها الظلام والمحن، بل كسفينة إنقاذ تشق أمواج الفتن؛ لتنير الزمن كل الزمن... نعم سيأتي ابن المؤتمن، وسنكون معه ننادي: لبيك يا بن الحسن.
اخرىبقلم: أم سرى الموسوي لا تستغرب من هذا العنوان؛ لأنه حقيقة... نعم، إن الكافر يأخذ أجره ويستوفي كل حقوقه كاملة في هذه الدنيا لسببين: الأول: لأن عطاء الله تعالى في الدنيا غير محظور عن الكافر فضلًا عن المؤمن ((كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20))) سورة الإسراء والسبب الثاني وهو الأهم: أن الكافر ليس له إلّا الدنيا... فإذا اتبع قوانين الحصول على الرزق وسار وراء الأسباب سيعطيه الله ما يريد... بل وأكثر مما يعطي للمؤمن، فعادة ما تُجمع له كل وسائل الراحة المادية من أموال وأولاد وصحة ومنزل كبي،ر والسبب في ذلك راجع لعمل ذلك الكافر نفسه، فكلما كان عمله حسنًا كلما زاد الله له من الخير أكثر... كجزاء له لقيامه ببعض أفعال الخير في حياته الدنيا (كعطفه على أولاده أو أنه ساعد حيوانًا يومًا... أو لأنه بار بوالديه مثلًا وهكذا...) وهذا الكلام لم أقله أو أكتبه اعتباطا وإنما هنالك آيات قرآنية كثيرة تؤكد هذا المعنى، مثل قوله تعالى ((وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33))) سورة الزخرف ويشمل ذلك المنافقين وبعض الضالين الذين طبع الله على قلوبهم لرفضهم اتباع أولياء الله واتباعهم للطواغيت ولهوى النفس كما في قوله تعالى في سورة مريم ((قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا ۚ حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (75) وأما المؤمن فهو أكثر ابتلاء وأكثر تعرضًا للمصائب وذلك لعدة أسباب، منها: لتصفيته من الذنوب، كما جاء في بعض الروايات من أن البلاء للمؤمن تطهير ونعمة، وللكافر عذاب ونقمة... وكذلك أن للبلاء أو المصائب التي تصيب المؤمن أسباب أخرى منها: 1- إيقاظه من غفلته وانغماسه في الدنيا وملذاتها ونسيان آخرته بسببها. 2- لتطهيره من ذنوبه كما أشرنا قبل قليل. 3- إصلاح دنياه أو آخرته أو الاثنين معًا حيث إن بعض البلاء يمنع بلاءً أكبر منه بكثير، كما أن بعض الأمراض يكون سببًا أو مانعًا لأمراض أكبر منها، وهذه حقيقة ثابتة علميًا. 4- أن يعطيه الله درجة عالية في الجنة... وتوجد روايات كثيرة في هذا المجال سأدون بعضها لأجل الفائدة... والروايات هي كالآتي: الرواية الأولى: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إن العبد المؤمن ليكون له عند الله الدرجة –لا يبلغها بعمله- فيبتليه في جسده، أو يصاب بماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبر بلغه الله إياها". وهذه الرواية تذكرني بحديث النبي (صلى الله عليه وآله) مع ولده الحسين (عليه السلام) حيث قال له (إن لك لمنزلة في الجنة لا تنالها الا بالشهادة) الرواية الثانية: عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): قال الله (عز وجل): "إن من عبادي المؤمنين لعبادًا لا يصلح لهم أمر دينهم إلا بالغنى، والسعة، والصحة في البدن، فأبلوهم بالغنى والسعة والصحة في البدن، فيصلح لهم أمر دينهم". وقال: إن من العباد لعبادًا لا يصلح لهم أمر دينهم، إلا بالفاقة، والمسكنة، والسقم في أبدانهم، فأبلوهم بالفقر والفاقة، والمسكنة، والسقم في أبدانهم فيصلح لهم (عليه.خ) أمر دينهم. الرواية الثالثة: عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله إلى موسى بن عمران: ما خلقت خلقًا أحب من عبدي المؤمن، إني إنما أبتليه لما هو خير له، وأروي عنه لما هو خير له، وأعطيه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه حال عبدي المؤمن، فليرضى بقضائي وليشكر نعمائي، وليصبر على بلائي، اكتبه في الصديقين إذا عمل برضائي، وأطاع لأمري. الرواية الرابعة: وعن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا فضيل إن المؤمن لو أصبح له ملك ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيرًا له، ولو أصبح وقد قطعت أعضاؤه كان ذلك خيرًا له، إن الله (عز وجل) لا يصنع بالمؤمن إلّا ما هو خير له. نستفيد من هذه الروايات وما يشبهها بأن الله تعالى يبتلي المؤمن لأنه يعلم بأن الدنيا لا قيمة لها لتكون له أجرًا، وأنه تعالى لم يخلقه إلّا لأجل الجنة، فالآخرة هي الحيوان وليست الدنيا لها قيمة أصلًا لينال فيها المؤمن أجر عمله... حيث جاء في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال (لولا هوان الدنيا عند الله لما سقى الكافر منها شربة ماء)... وأسألكم الدعاء
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى