بقلم: علوية الحسيني كرسيُّ الله تعالى قال تعالى في عظيم بيانه: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (1)، مفردة الكرسي جاءت في القرآن الكريم مرتين فقط، الأولى مختصة بالله تعالى، والثانية مختصة بنبي الله سليمان (عليه السلام)، والأولى محلّ كلامنا. مفردةٌ تشير إلى السيادة والسلطنة حسب السياق العرفي الدارج، "وقد سميت آية رقم (255) من سورة البقرة بآية الكرسي على قول الأشهر، فيكون منتهاها إلى وهو العلي العظيم، {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم}. وقيل أنّ منتهاها إلى (فيها خالدون)، بإضافة الآية التي تليها" (2) ■النقطة الأولى: تفسير الكرسي قرآنيًّا: إنّ الآيات محكمة ومتشابهة، كما قال الله تعالى في عظيم بيانه ومعجزة نبيّه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} (3). وإنّ آية الكرسي من الآيات المتشابهة، والمتشابه لا بد فيه من الرجوع إلى المحكم؛ لمعرفة المراد، "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم والمتشابه فقال: المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله" (4). والآية المحكمة التي ترجع إليها آية الكرسي المتشابَهة هي آية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} (5)، وسبب رجوع الآية المتشابهة إلى المحكمة هو لاشتباه مراد الآية -المتشابهة- وعدم إدراك مفادها، وإلّا لو كلٌّ منّا فهم الآيات المتشابهة وفق فهمه القاصر لزاغت القلوب. إذًا وفق تلك الضابطة تفسّر الآيات المتشابهة -ومنها الآية محل كلامنا-، وقد استفادت منها المناهج التفسيرية. ■النقطة الثانية: تفسير الكرسي روائيًّا: حتمًا، أنّ القول بالاستغناء بالقرآن الكريم، وفصله عن السُّنة النبوية -الأحاديث- هو قولٌ غير صحيح، فهما ثقلان أمر بالتمسك بهما النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) في حديثه المتواتر المعروف بحديث الثقلين. لذا فالإدراك درجات، وأكمل أدراكٍ بشري عند النبي محمد وأهل بيته (عليهم السلام)، فهم حملة العلم الإلهي بجعلٍ مشهود منذ عالم ما قبل الدنيا وحتى القيامة، بل وفيها. ولو واجه المكلف آية تعسّر وتعذّر عليه فهم ما تؤول إليه بعض الآيات كآية الكرسي، فيجب عليه الرجوع إلى الروايات الشريفة لتكشف له مراد الآية، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب} (6) وقد روي "عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) قَالَ: نَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ" (7). ولا علاقة للتأويل ببيان المعاني اللغوية، كما يقول أحد الأعلام، "بل هو ما تؤول إليه تلك المعاني، لان كل معنى عام حين يريد العقل أن يحدده ويجسده ويصوره في صورة معينة، فهذه الصورة المعينة هي تأويل ذلك المعنى العام" (8). وعليه، نجد أنّ التفسير الروائي الصادر عن أهل البيت (عليهم السلام) جاء مؤولاً لمفردة الكرسي بالعلم؛ روي "عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال: علمه"(9)، أي أنّ الله تعالى علمه واسع، فيعلم بما في السماوات والأرض. ■النقطة الثالثة: سر عظمة آية الكرسي روائيًّا وعقائديًّا: 1/ روائيًّا: روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "إن لكل شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي" (10)، وفي ذلك بيان فضلها. وروي "عن عليّ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "سيّد القرآن البقرة، وسيّد البقرة آية الكرسي، يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة، وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر" (11). ولا غبار على كلام المعصوم بتاتًا حتى يحتاج إلى ايضاح. 2/ عقائديًّا: حتمًا للعقل دورٌ في تعظيم تلك الآية؛ استنادًا منه إلى ما قرأ في النقل عن عظمة وجلالة تلك الآية، يقول العلاّمة الطباطبائي (قدس سره): "لشرافة ما تدل عليه [آية الكرسي] من المعنى ورقته ولطفه، وهو التوحيد الخالص المدلول عليه..." (12). فأحد الأدلة التي يستدل بها على توحيد الله تعالى بكافة أقسام التوحيد هو العقل، وهو سيّد الأدلة، ونترك الآن بيان سر عظمة آلية الكرسي عقديًّا ونقول: لـو تأملنا في كل الآية من أولها إلى آخرها لوجدناها تتمحور حول محور واحد، وهو علم الله جلّ جلاله. أ/ حينما يقول تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو} فالآية في صدد نفي الشريك لله تعالى، وتلك قضية (عدم وجود شريك) يعلم بها سبحانه. ب/ حينما يقول تعالى: {الْحَيُّ} فالحياة صفة ذاتية لله تعالى، وهي تلابس علمه وقدرته سبحانه، فمن يكن حيًّا يكن قادرًا عالمًا. ت/ حينما يقول تعالى: {الْقَيُّومُ} أي المهيمن على عباده، الذي يتولى شؤونهم، ومن يتولّ شؤون عباده لابد أن يكون عالمًا بنفوسهم وما تؤول إليه أمورهم. ث/ حينما يقول تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} السنة هي الغفلة والذهول، ومفارقة العلم، والنوم هو الحالة التي تطرأ على الحواس فتسلب صاحبها العلم بما حولها، وهذا ما نفاه الله تعالى عن نفسه، إذًا علمه سبحانه دائم. ج/ حينما يقول تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض} فالآية تشير إلى مالكيته تعالى لكلّ ما هو موجود في السماوات والأرض، ومن يملك شيئاً لابد أن يعلم به. ح/ حينما يقول تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فالآية تشير إلى أنّ الشفاعة وإن كانت مشروعة إلّا أنّه لا شفيع يشفع -أيًّا كان الشفيع- إلاّ بإرادة الله تعالى، والإرادة ترجع إلى العلم بالأصلح في واحد من تفسيراتها المتعددة. خ/ حينما يقول تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الآية واضحة جليّة في بيان علم الله تعالى. د/ حينما يقول تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء} إشارةً منه تعالى إلى اختصاصه بعالم بالغيب كليًّا، وتحميل أوليائه جزءً منه، وبإرادته وعلمه أيضًا. ذ/ حينما يقول تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} هنا محل كلامنا، فالآية تشير إلى سعة علم الله تعالى؛ فيعلم السماوات والأرض وما فيهما. ر/ حينما يقول تعالى: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي إنّ الله تعالى لا يتعبه حفظ السماوات والأرض؛ لأنّه قادر، والقادر –كما ثبت في علم الكلام- لابد أن يكون عالمًا، وإلا لكان فاعلًا موجبًا –مجبرًا- ز/ حينما يقول تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} إشارةً منه تعالى إلى تنزيهه وعلوّه وعظمته من أن يكون له كرسي كمخلوقاته. وذيّل الله سبحانه الآية بهذين الاسمين حصرًا لم يكن عبثًا منه سبحانه، فتأمل. وعليه، استمدت عقيدتنا نحن الشيعة الأمامية من هذا البحر التوحيدي التنزيهي، وانفردت عن سائر المذاهب بتوحيدها الخالص للواحد الأحد. والخلاصة: أنّ عقيدتنا في كرسيّ الله تعالى هو علمه سبحانه. ■النقطة الرابعة: ظهور الآية وتعارضه مع الدليل العقلي جميعنا يعلم أنّ ظهور الكلام حجّة، والقرآن الكريم كلام، إذًا ظهور القرآن حجّة. وهذا الظهور يقتضي أن يكون لله تعالى كرسيًا، يسع السماوات والأرض، وبالتالي لو احتجّ أحدنا قائلًا بالاعتقاد بأنّ الله سبحانه له كرسي فوق السماوات يجلس عليه مستندًا على حجيّة ظاهر الآية! لأجبناه: أنّ هناك براهين عقلية تنفي الكرسي؛ لأنه يلزم اثبات الجسم لله تعالى، وفي حال تعارض ظواهر القرآن الكريم مع الدليل العقلي البرهاني يقدّم القول بالدليل العقلي. بيان الدليل العقلي: لو كان لله تعالى كرسي يجلس عليه لـكان جسمًا، وكلّ جسمٍ مركب من أجزائه، وكلّ مركب محتاج إلى أجزائه، وكل محتاج مخلوق، والله سبحانه خالق وليس بمخلوق. إذًا انتفى أن يكون له تعالى كرسي، فوجب تأويل الكرسي إلى ما يليق بقداسة الله تعالى، والحفاظ على التوحيد الحق. وعليه لو تعارض الظهور مع الدليل العقلي، يؤخذ بالدليل العقلي؛ لأنّه بمثابة القرينة المتصلة في علم التفسير، والقرينة تقدّم على ذي القرينة، فيقدّم الدليل العقلي القائل بتنزيه الله تعالى عن الجسمية وأن يكون له كرسي مادّي يحدّه. _________________________ (1) البقرة: 255. (2) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، 84 / 98. (3) آل عمران: 7. (4) تفسير العياشي: ج 1، ص ، 11 ح 17. (5) الشورى: 11. (6) آل عمران: 7. (7) اصول الكافي: للشيخ الكليني ، ج1، باب الراسخين في العلم هم الأئمة، ح1. (8) علوم القرآن: للسيد محمد باقر الحكيم، ص230. (9) التوحيد: للشيخ الصدوق، ب52، ح1. (10) مجمع البيان: ج1-2، ص361. وبحار الأنوار: ج92، ص267، ح 14. (11) الأمثل في تفسير كتاب المنزل: للشيخ ناصر الشيرازي، (12) الميزان في تفسير القرآن: للعلامة الطباطبائي، ج2، ص337. والحمد لله الذي علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء، والغلبة لكل شيء ،والقوة على كل شيء، حمدًا دائمًا أبدًا سرمدا، وصل اللهم على محمدٍ وآله أولي العلم والحجى.
النكات العلمية في القرآن الكريمبقلم: إسلام نادي قاعدة مرورية هامة "اصنع حساباً لأخطاء الآخرين"، إن كنت من سائقي السيارات فأنت تعلم هذه القاعدة جيدًا، ربما لا تكتب هذه القاعدة على اللوائح ولكن الجميع يؤمن بها ويردّدها، والقليلون هم من يعملون بها ويأخذون أخطاء الآخرين في حسبانهم. ولكن، هل قطار الحياة يصنع حسابًا لأخطاء الآخرين؟ هل ستتوقف عجلة القطار إذا كنت ملقىً على جنبك على القضبان الحديدية لا تستطيع الحراك؟ في الحقيقة، قطارات الحياة لا تصنع حسابًا لأخطاء أحد، حتى أنها لا تصنع حسابًا لسائق القطار نفسه، أما أنت يا صديقي فعليك أن تصنع حسابًا داخل العربة لأخطاء الركاب، فربما يطأك أحدهم بقدمه إن كنت جالسًا في الطرقة، وربما يهوى كوب الشاي من يد أحدهم فتستقر على فخذيك وأنت جالس على الكرسي، وربما يأخذ أحدهم حقيبتك بالخطأ أثناء نزوله. في مآرب الحياة وأزقتها لا أحد يصنع حسابًا لخطئك، عليك أن تقود نفسك باستقامة وتركيز كي لا يصطدم بقلبك أحد، أو يدهسك أحدهم بأفعاله وأقواله، وأيضًا عليك أن تصنع حسابًا لأخطاء جميع من حولك كي لا تقع في عواقبها ونتائجها. 《أن تصنع حسابًا لأخطاء الآخرين خيرٌ لك من أن تلومهم على الخطأ الذي ارتكبوه》. قطار الحياة كقطار خط الصعيد في مصر، لا ينتظر أحد، أوَ تدري لماذا؟ لأنه محمّل بقدر كبير من الركاب لا يسمح له بانتظار أحد آخر، فلا يهتم لأخطاء أحد، من يخطأ ربما يؤدي به خطؤه لأن يفقد حياته، ولكن جميع الركاب ينبغي على كل واحد منهم أن يصنع حسابًا لأخطاء الآخر، فهذه حياتهم هم وليست حياة القطار، إنْ حدثت مشكلة فبماذا يفيد اللوم والخطأ قد وقع، فلا تتسارع أثناء قيادتك لحياتك وأنت غاضبٌ أو متهور وتقنع نفسك بأنك ستأخذ حقك إنْ أحدث سائق السيارة بجوارك خطأ أدّى لإصابتك. في حياتك لا تستسغ إلقاء اللوم على الآخرين بعد فشلك المتلاحق في تجاوز المنعطفات، لا تبرر قائلًا "لقد أشعلت ضوء الإشارة اليمنى الصفراء ولكنه لم يفهمها"، أو تقول "هذا الطريق ملئ بالمرتفعات"، أخطأت في الأولى لأنك لم تصنع حساباً لأخطاء القادمين خلفك، أليس من المعلوم لدي الجميع أن رخص القيادة تخرج بالأموال لا بتجاوز الاختبارات، وفي الثانية أخطأت لأنك لم تؤهل نفسك للقيادة في المنحدرات أو المرتفعات. هذه هي القوانين في الحياة، المخطئ لن يعيد لك ما فقدته، وأنت لا يجدر بك الخطأ فضلًا عن تكراره، فخذ قرارك قبل أن تقود السيارة، وإن انتهى بك القرار للقيادة فهيئ نفسك لدخول جميع المسارات، لا تُحاول أن تخطأ بمبررات لا تُجدي بعد وقوع الخطأ، وإن أخطأت ووقعت من عربة القطار فكن قويًا وحاول أن تسرع قبل أن تدهسك عجلاته، ودائمًا يجب أن تضع نصب عينيك أن (الوقاية خيرٌ من العلاج) لذلك اصنع حسابًا لأخطاء الآخرين كي تتلافى الوقوع.
اخرىبقلم: علوية الحسيني غسيل الأواني المبارك! قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} (1) لاشك ولاريب أنّ كلّ عملٍ تقوم به المرأة –وكل مؤمن- وتنوي فيه قصد القربة لله تعالى، فإنّ الله اللطيف الكريم يثيبها ثوابًا مضاعفًا؛ ثوابًا على أداء نفس العمل، وثوابًا على احتسابه قربةً له تعالى. والآية الكريمة كفيلة ببيان عدم تضييع الله تعالى لعمل عباده -ذكورًا كانوا أم إناثًا- وفي شهر رمضان المبارك، تعاني أغلب النسوة من ثقل بعض الأعمال المنزلية، لاسيما غسيل الأواني التي يتضاعف عددها في وجبة افطار الشهر الفضيل. والسبب في تعددها بديهي، فهو راجع إلى تنوّع أصناف الطعام -وإن لم يصل الأمر إلى حد الإسراف في ذلك الطعام، إلاّ أنّ مَن أراد التدرج بإفطاره، باحتساء السوائل، ثم التمر، ثم الطعام، ثم الفاكهة، فإنّ ذلك يتطلب إعداد أوانٍ لتلك الأشربة والأطعمة... وبالتالي عند انتهاء وجبة الإفطار على المرأة القيام بأعمالها المنزلية، ومن ضمنها غسيل تلك الأواني، وترتيبها. فإليكِ يا أختاه بعض الأعمال التي تخفف عنكِ ثقل تلك المسؤولية، واستغلال دقائق وقتك ذلك في أمورٍ تغذي الروح والعقل: 1- التعرض للرحمة الإلهية؛ بالاستماع والإنصات لآياتٍ من الذكر الحكيم، كما يقول الله تعالى في كتابه: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} (8). 2- الإكثار من ذكر الله تعالى، وعدم الغفلة عن ذكره -ولو قلبيًا-، يقول تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين} (9). والروايات الشريفة جاءت مؤكدة لأهمية الذكر، وأضافت عليه بعض النتائج؛ حيث روي " عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه): مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الله (عَزَّ وَجَلَّ) أَحَبَّهُ الله وَمَنْ ذَكَرَ الله كَثِيراً كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاق" (10). 3- التفكّر في كيفية خلق الله تعالى للماء، يقول تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (11)، والتأمل في كمية هذا المركب المكون من ذرتي هيدروجين، وذرة أوكسجين، كم يحتوي من جزيئات، وقد حثّ الله تعالى على التفكر في كتابه بآياتٍ عديدة، منها قوله تعالى: { كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} (12)، فالماء آية من آيات خلق الله الحكيم القدير، فهلاّ تفكرتِ؟ 4- إدراك الحكمة الإلهية بتوجيه التكاليف الشرعية للمرأة -ومنها الحجاب-؛ فحينما تغسلين الأواني ذات الزجاج الرقيق اللامع وتضعينها في موضع يؤمن عليها من الكسر أو تنالها أيدي الأطفال، فإنّكِ حكيمة بتصرفكِ هذا؛ لأنكِ وضعتِ الشيء في محله حفاظًا عليه، فهكذا الله تعالى حينما أمركِ بارتداء الحجاب لأنّكِ قارورة؛ ليؤمن عليكِ من عبث أطفال العقول، فهكذا الله تعالى فهو حكيم لأنّ فعله -تكليفه لكِ- معلّل بغاية. 5- التأمل في كيفية إذابة الترسبات والدهون عن الأواني المتسخة، وتشبيه هذه الحالة بحالة تطهير القلب من أدران الذنوب والآثام، لئلا يران عليها بطبقاتٍ سوداء تحجب بين القلب والنور الذي يتسلله من الامتثال لأوامر الله تعالى والاجتناب عن نواهيه، يقول تعالى: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون} (13)، فقلبٌ محجوب، محرومٌ من شمس المعارف الإلهية، متقوقعٌ في الحفر الظلمانية، متعلّقٌ بالأمور المادية، أُلعوبةٌ بيد العفاريت الشيطانية، لهو قلبٌ أعمى، وصاحبة القلب الأعمى تحشر يوم القيامة عمياء البصيرة؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرا} (14)، فهلاّ انتبهت؟! 6- إدراك بديع نظم الله تعالى لكونه؛ كيف أنّه جعل الكواكب على بعدٍ ومكانٍ معين عن الأخرى، ففي آفاق السماوات نظمٌ وتنسيقٌ، يقول تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} (15)، فبإمكانكِ إدراك ذلك من خلال ترتيبكِ للأواني بأحسن هيأة. 7- سماع المحاضرات العقائدية، أو الفقهية، أو الأخلاقية القصيرة النافعة، واستلهام ما يدفع الجهل. 8- للقضية المهدوية دورٌ في ثمرات شهر رمضان المبارك، فكم من النسوة تشكو ضيق الوقت واستحالة التفرّغ لسماع محاضرةٍ عن الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه الشريف)، والحال أنّ بيدها وقتًا ذهبيًا كهذا الوقت، فبإمكانكِ الاستماع لتلك المحاضرات أثناء انشغالكِ بغسيل الأواني. 9- تذكري بعملكِ هذا أنّ نسوة أهل البيت (عليهن وعليهم السلام) كنَّ يؤدينه، وهذا خير معين أيضًا. 10- التفكير بمشاريع الغد، أو المستقبل -بدلًا من انشغال ذهنكِ بسفائف الأمور- والعزم على تحقيقها، مع تعليق إنجازها على مشيئة الله القادر، يقول تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا* إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّه} (16)، وفي قبال ذلك يقول جلّ جلاله: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون} (17)، وبالجمع بين الآيتين نخرج بنتيجة وهي: العزم على التحقيق بالتوكل وتدخل المشيئة الإلهية. ______________________ (1) آل عمران: 195. (2) مجمع البحرين، ج4، ص 378. (3)المصدر نفسه، ج1، ص133. (4) المصدر نفسه، ج5، ص77. (5) المصدر نفسه، ج2، ص276. (6) مكارم الأخلاق: للشيخ الطبرسي، ص29 - 30. (7) المصدر نفسه، 149. (8) الأعراف: 204. (9) الأعراف: 205. (10) الكافي: للشيخ الكليني، ج2، باب ذكر الله عزز وجل كثيرًا، ح3. (11) الرعد: 17. (14) طه: 125-126. (15) فصلت: 53. (16) الكهف: 24. (17) آل عمران: 160. اللّهم اجعل كلّ ما أقوم به قربةً إليك، ويبدأ باسمك، يا أرحم الراحمين، بحق محمدٍ وآله الذاكرين.
المناسبات الدينيةبقلم: عبير المنظور إيهٍ يبن أبي طالب... يا نفس الرسول! وزوج الطهر البتول! يا أملًا عانق الفقراء وعشعش في أرواحهم المنهكة… يا تنهيدة اليتامى الواقفة على باب دارك يا لهفة أقداح اللبن بأيديهم يا انحناءة الأفق الحزين ساعة السحر يا شجن المسجد وترنيمة المحراب الحزين الذي اعتاد صلاتك ودعواتك الصادقة فيه والذي كان شاهدًا على تهـّجدك وخضوعك لله كان المحراب يستلذ بلذيذ مناجاتك للخالق ويطيب لسماع صوتك المشرق وهو يترنم بالقرآن وكان يرى عن قرب دموع خشيتك من الله يا شوق المحراب لعودتك الروحانية إلى ساحته بعد أن تبرئ من ضربة ذلك اللعين يا شهقة حزن زينب ودموع الحسن واسترجاع الحسين هذه دموع المحراب تمتزج مع دموعهم وآهاته تتحرق مع آهاتهم وجرحه الذي يحاكي جرح هامتك يا نشيج عمامتك التي كانتْ تلتوي على رأسك الطاهر وتحتضنه بقوة لتحميه من سم سيف المرادي ولكن عبثًا ضاعت محاولاتها، فلقد تمزّقتْ أذرعها الحانية وانفلقتْ مع انفلاق رأسك إلى نصفين وتسمّمتْ لتغلغل السم فيه... بكتْ العمامة وناحت خيوطها وذرفت دموعها التي امتزجت مع دماء رأسك الشريف شوقًا لاحتضانه مجددًا وبين شوق المحراب ودموع العمامة قطع النداء السماوي: (تهدمت والله أركان الهدى، وانفصمت العروة الوثقى) تلك الآمال باللقاء مرة أخرى مع الولي إلى آلام لا تنتهي وستبقى نارًا مستعرة في النفوس حتى قيام القائم من آل محمد.
اخرىبقلم: رضا الله غايتي من الخطأ اختزال الإمامة الإلهية بالمنصب الظاهري أو بمجرد السلطة الحاكمة؛ لأن لها مقامًا أرفع ومهامًا أوسع، فهي منصب روحي ومعنوي رفيع، به يتحقق الهدف من بعثة الأنبياء وبانقطاعه يتعطل دور النبوة وبالتالي إلغاء رسالة السماء. منصب الإمامة أعلى شأنا وأرفع مرتبة من منصب النبوة، يدل على ذلك أنه (تعالى) لم يمنحه لخليله إبراهيم (عليه السلام) إلا بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة واجتاز العديد من الابتلاءات التي عبر الله عنها بـ(الكلمات) في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً" (البقرة 124). ولم يكن النبي إبراهيم (عليه السلام) النبي الوحيد الذي جمع بين النبوة والإمامة بل إن جميع أولي العزم من الأنبياء كان لهم ذلك ،لاسيما الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث أكرمه الله (تعالى) بمنصب الإمامة الربانية منذ بداية نبوّته. وبما إن انقطاع الإمامة يعني تعطيل النبوة وبالتالي تعطيل رسالة السماء ـ كما تقدم ـ فلابد أن يستمر خط الإمامة بعد النبي محمد(صلى الله عليه وآله) حيث استمر في المعصومين (عليهم السلام) من ذرّيته وسيبقى كذلك حتى قيام يوم الدين. وقد دلَ على ذلك الكثير من الأدلة الشرعية من الكتاب الكريم والسنة الشريفة.. منها قوله (تعالى): "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ" (القدر4) ولتوضيح محل الشاهد في هذه الآية المباركة لابد من مقدمتين هامتين: الأولى: تظافرت الروايات الواردة من طرق الفريقين على أن ليلة القدر لم تُرفع بعد استشهاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني: "..وحدّثني يزيد بن عبدالله بن الهاد: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثم رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة" (1). الثانية: ليلة القدر هي الليلة التي يقدر فيها أقدار العباد الى السنة القادمة كما روي عن الإمام الرضا(عليه السلام):"يقدر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر أو مضرة أو منفعة أو رزق أو أجل" (2)، (والمراد بهذا التقدير إظهاره (تعالى) لملائكته مما يكون من أفعاله بما سبق به علمه وقضاؤه في الأزل، ولخواص خلقه بنفسه أو بواسطة الملائكة) (3). والسؤال الهام هنا: إن كانت ليلة القدر الى الآن مستمرة فعلى من تنزل الملائكة والروح؟ وإن كان الله (تعالى) يُطلع خواص خلقه على تقديره، فمن هو مصداق أولئك الأشخاص في زماننا هذا؟ أجابت بعض الروايات عن كلا السؤالين، منها ما روي عن أبي الحسن (عليه السلام)، قوله: "تنزل الملائكة والروح فيها" قال: تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور" (4)، وفي رواية أخرى قيل لأبي جعفر (عليه السلام): "تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف والملائكة تطوفون بنا بها" (5). ولأجل ذلك كانت ليلة القدر شاهدًا واضحاً ودليلًا ساطعًا على حقيقة الإمامة وضرورة استمرارها كما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: "يا معشر الشيعة خاصموا بسورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} تفلحوا؛ فوالله إنّها لحجّة الله (تبارك وتعالى) على الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّها لسيدة دينكم وأنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا بـ" حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)" (الدخان1ـ4)، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)" (6). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مصنف عبد الرزاق ج4 ص255 (2) بحار الانوار ج94 ص326 (3) شرح أصول الكافي ج10 ص11 (4) معجم أحاديث المهدي ج6 ص399 (5) بحار الانوار ج94 ص14 (6) موسوعة الإمام الجواد (ع) ج4 ص16
اخرىبقلم: حنان الزيرجاوي في هذا الشهر المبارك الذي يستقبله الإنسان بالطهارة والصيام، وتقوى القلوب لما له من مكانة عظيمة عند الله (جلا وعلا)، فيبدأ الإنسان رحلة أشبه ما تكون مرحلة انتقالية من عالم الماديات إلى العالم العلوي الملائكي، نلاحظ العمل يبدأ من شهر رجب الأصب الذي تصب في الرحمة الإلهية، وأغلب الأدعية تتناول الاستغفار لينتقل بعدها الإنسان لشهر شعبان المبارك، ونلاحظ انتقاله حتى في مضمون الأدعية الواردة عن أهل البيت (سلام الله عليهم) تعبئة ومنهجية متكاملة. فالمسيرة التكاملية لدى الإنسان تكون بشكل دفعي تدريجي ليس هناك انقلاب مفاجئ، فالتغيير يبدأ بحركة تكاملية تدريجية نفسية تسير نحو الكمال الروحي، إلى أن نصل للشهر المبارك الفضيل شهر رمضان. ليرتقي الإنسان بالصوم من حالة الحيوانية والماديات إلى حالة تشبه حالة الملائكة. (١) ويزداد عظمة هذا الشهر بوجود حدث عظيم ألا وهو نزول القرآن الكريم، قال تعالى {إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكَة} سورة الدخان الآية (١) ألا وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)} سورة القدر. روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «...فغرة الشهور شهر الله (عز ذكره) وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر...» (٢) نلاحظ هذه المسيرة التكاملية ارتفعت شيئاً فشيئاً إلى أن تصل لليالي القدر. وهنا تقع بعض الأسئلة منها: - متى تكون ليلة القدر بالتحديد؟ -وأين أبحث عن ليلة القدر؟ - وماهي صفات هذه الليلة؟ - وماهي فضيلة هذه الليلة؟ هناك حالة من الإبهام والإخفاء الذي يحيط بهذه الليلة المباركة، روي عن سفيان بن السمط قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام ): الليالي التي يرجى فيها من شهر رمضان؟ فقال: «تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين»، قلت: فإن أخذت إنسانًا الفترة أو علة، ما المعتمد عليه من ذلك؟ فقال: «ثلاث وعشرين» (٣). وكل ذلك احتمالات حسب ما جاء في الكثير من الروايات فكل هذه الليالي تعتبر من ليالي القدر، ليس هناك قطع ويقين بتحديد تلك الليلة المباركة، لكن الذي يظهر من الروايات أن تكون ليلة القدر الثالثة والعشرين الاحتمال الأقوى هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم. -لماذا هذا الإخفاء والإبهام؟ هناك ملاحظتان مهمتان حول هذا الإبهام وهما: أولًا: قد يكون سبب الإبهام لتوسيع نطاق عمل الخير والعبادة والسير نحو الكمالات العلوية. فاستقبال هذه الليلة العظيمة بالتقوى والصيام المجهز قبلها لفترات لاستقبالها بالطهارة والتقوى، دليل على أنها ليلة عظيمة ومباركة وهذا ما جاء في القرآن والروايات. ثانيًا: إذا كان الإبهام يتعلق بعمل الخير فهو لمصلحة الإنسان، لأنه لو تم وضوح وتحديد نقطة لها لعجز الإنسان، واكتفى بالعمل فقط في تلك النقطة المحددة. ونلاحظ تارة الروايات تنقل لنا أنها تقع في العشرة الأواخر من الشهر، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (٤). فنلاحظ وضوح من جهة وغموض من جهة أخرى وهذا معناه أن نطاق الخير قد اتسع لهذه الليلة المباركة، ونحن كمؤمنين هدفنا هو الرضا الإلهي. ونلاحظ أن الإخفاء ليس فقط في ليلة القدر إنما في الكثير من الأمور، فإذا علم الإنسان بلحظة رحيله من هذه الحياة الدنيا فإنه سيتوب قبل موته بقليل ويعمل صالحًا... لكن إذا لا يعلم ذلك في أي لحظة ينتقل لربه وكان موعد موته مبهم سيبقى يترقب ذلك في كل لحظة. الله (جلا وعلا) قد اخفى رضاه في طاعته، فلا نعلم أين يكمن الرضا الإلهي المطلق، لنسعى لنيل رضاه والاستكثار من الطاعات، وكذلك اخفى اولياءه في عباده، لكي لا نحقر عبد من عبيد الله فيمكن أن يكون إنسان بسيط نجهله هو أقرب لله منزلة ودرجة. وأخفى سخطه في معصيته، وأخفى اسمه الأعظم في اسمائه الحسنى لنعظم ونمجد كل اسمائه وهذا ما جاء في دعاء الجوشن الكبير. ما هي ليلة القدر؟ أو ما معنى القدر في هذه الليلة المباركة؟ ورد في الروايات والأحاديث، والتفاسير أن تسميتها بليلة القدر جاءت بسبب أن الله قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، من خير أو شر، حياة أو موت، صحة أو مرض، كل ذلك يقدر في تلك الليلة المباركة. وكذلك ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) تقدير الولاية في تلك الليلة، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أن في هذه الليلة قدّرت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفضلًا عنه تم تقدير السماوات والأرض) (٥). القدر في اللغة: مصدر: قدر يقدر قدرًا، عبارة عمّا قضاه الله وحكم به من الأمور. (1) وقيل: هو كون الشيء مساويًا لغيره من غير زيادة ولا نقصان، وقدّر الله هذا الأمر بقدره قدرًا: إذ جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة. اصطلاحًا هو: ما قدّره الله سبحانه من القضاء وحكم به. ومن صفات هذه الليلة المباركة كما جاء في الآيات والروايات: - أنها تشهد نزولًا للملائكة، لا يعني ذلك أنهم لا ينزلون في الأيام الاعتيادية لكن نزولهم في هذه الليلة بصفة مختلفة، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ هِيَ}، والروح النازلة في ليلة القدر لها العديد من التفاسير، والأصحّ في تفاسير أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الروح ها هنا جبرئيل، وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه، كأنّه تعالى يقول: الملائكة في كفّة والروح في كفة. كل ذلك بإذن الله ورحمته. -ليلة القدر لها ارتباط وثيق ودليل بين على وجود صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف)، إذا كان حدوثها كل عام فعلى من يتنزّل جبرئيل (عليه السلام) بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة؟! -نزول القرآن في تلك الليلة المباركة زادها عظمة قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)﴾ سورة الدخان . -تعتبر ليلة القدر هي بداية للعام، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها» (٦) -وصفها بأنها أفضل ليالي شهر رمضان روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «فغرة الشهور شهر الله عزّ وجل وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر...» (٧) -وسئل أهل البيت عن تفسير ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ سورة القدر الآية (١) فأجاب الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال: (اللَّيْلَةُ فَاطِمَةُ وَالْقَدْرُ اللَّهُ فَمَنْ عَرَفَ فَاطِمَةَ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا فَقَدْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ) (٨) وهذا بحث يطول شرحه. -من صفات هذه الليلة أنها ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حْكيم)، القرآن يفسر بعضه بعضًا، وهذه الآية يقابلها قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ هِيَ). -استمرارية ليلة القدر في كل عام، ولم تنقطع بعد ممات رسول الله (صلى الله عليه وآله). عن داود بن فرقد قال: حدثني يعقوب قال: سمعت رجلًا يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن ليلة القدر، فقال: أخبرني عن ليلة القدر، كانت أو تكون في كل عام؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) «لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن» (٩). -ليلة القدر والتجارة مع الله إن إخفاء ليلة القدر في عدة ليالي هو لتوسيع نطاق عمل الخير والاستكثار منه –كما تقدم-، وما ذلك إلا لكي يحثنا (جلا وعلا) على العبادة في هذه الليالي المباركة كلها، لماذا نجعل العمر يذهب باطلًا؟ ولماذا نترك أيامنا تذهب هدرا؟! أليس من الأولى أن نجعل لهذا العمر المحدود الفاني قيمة؟ فإذا ما قسناه في مواجهة هذا الكون الهائل الذي يمتد في الآفاق والأبعاد، نلاحظ لا قيمة له ما دام مصيره الفناء والزوال كل شيء في طريقه للفناء إلا وجه الله، ليس أعظم من هو خير من على وجه الأرض وهو نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي جاءه النداء من السماء بقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) سورة الزمر الآية (٣۰). والجبال بحجمها الكبير مصيرها الزوال بقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)سورة طه الآية (١۰٥). مع قصر ذلك العمر المحدود وقلته التي لا تساوي شيئًا مقابلًا بعمر الجبال باستطاعة الإنسان أن يجعل لذلك العمر قيمة... قد يسأل سائل وكيف يكون ذلك ما دام العمر مدته محدودة وقصيرة؟ الجواب: إن العمل الذي يمارسه الإنسان عندما يقصد به الوصول لله سبحانه وتعالى، وكسب الرضا الإلهي، بمقدور ذلك الإنسان أن يمد في عمره ليتجاوز الكون كله. عندما يعمل عملًا بسيطًا يبتغي منه رضى الباري (جلا وعلا) والتقرب منه يكون جزاؤه جنة عرضها السموات والأرض، يستطيع الإنسان عن طريق صدقة قليلة لإطعام جائع أو كسوة يتيم أو قضاء حاجة محتاج بهذا الثمن البسيط يشتري جنة... وما هذه إلّا التجارة الرابحة مع الله. أين نحن عن ذلك؟ هذه الأعمال والحسنات هكذا أجرها طوال عام كامل، الحسنة بعشر أمثالها، إنها تجارة عظيمة ويا له من رب كريم. كيف إذا أصبحت خلال شهر كامل بأضعاف مضاعفة لا تعد ولا تحصى؟ وكيف إذا جعلت في ليلة هي خير من ألف شهر؟! روي عن الإمام أبا عبد الله (عليه السلام) يوصي ولده يقول: (إذا دخل شهر رمضان، فاجهدوا أنفسكم فإن فيه تقسم الأرزاق وتكتب الآجال وفيه يكتب وفد الله الذين يفدون إليه وفيه ليلة، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر) (١۰). ما قيمة تلك التجارة التي تتاجرها خلال ليالي معدودة. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر الله ما تقدّم من ذنبه» (١١).إن الإسلام يحثنا على هذه التجارة وهي لمصلحتنا فالله سبحانه غني غير محتاج، كل عمل يرجع بالنفع لنا. فمفهوم الحضارة الحقيقي والإنساني هي أن يقترن العلم والعمل بالإيمان ليكون الهدف من ذلك هو مرضاة الله أولًا ومنفعة الناس ثانيًا. فالرضا الإلهي هو الضمان للاستمرارية والمنفعة البشرية. لذلك على الإنسان أن يلاحظ أنه هل وصل إلى ذلك المستوى من الفيض الإلهي ليدرك تلك الليلة المباركة؟ فإذا كانت النفس ملوثة بالمعاصي والآثام وغيرها هل تكون جديرة لتلقي الرحمة الإلهية هل تدرك تلك الليلة؟ هل استطعنا تطهير نفوسنا؟ وهل نحن مستعدون لنيل المراتب الكمالية؟ ____________________________ ١- العروة الوثقى ٢- الكافي ج٤ص٦٦ ٣- من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 103، حديث 460. ٤- البخاري، الجامع الصحيح، ج 2ص٢٥٤ ٥- الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 32، ص 28. ٦- الكافي، ج 4، ص 160، حديث 11 ٧- الكافي ج 4ص، 67 ٨- فرات الكوفي، تفسير فرات الكوفي، ص 581 ٩- الكافي، ج 4، ص 158، حديث 7. ١۰- الكافي ج 4ص 67 ١١- مجمع البيان، ج 10، ص 409.
المناسبات الدينيةبقلم: رضا الله غايتي ليالي القدر مِنَحُها جزيلة وهباتها كثيرة، وفضلها عظيم وخيرها كريم، وهذا ما لا شك فيه ولكن ما يُثير العجب حقًا عدم تأثر بعض المؤمنين بكل هذا الخير الوفير، فتراه بعد هذه المحطة الإلهية العظيمة لغسل القلوب وتنوير النفوس، ولغفران الذنوب والتزود بالتقوى، كما هو في سابقها لم تطرأ على قلبه الرقة، ولم ترتقِ نفسه عن ضحالة الشهوة، فما السبب يا ترى؟ تجيبنا عن ذلك الآية المباركة: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا"(1). فالله (عز وجل) خيره وفير ومنُّه جزيل وعطاؤه كثير، فهو ينزل الخيرات والمواهب والعطايا في ليالي القدر كما ينزل الماء من السماء بلا فرقٍ بين شخص وآخر، أو بين جهةٍ وأخرى. ولكن العلة كل العلة تكمن في قابلية القابل أي في من يتقبل هذه العطايا، فتارة يُحضِر وعاءً صغيراً فلا ينال من العطاء الوفير إلا بمقدار وعائه الصغير. وأخرى يُحضِر وعاءً ملوثًا بالأوساخ فيحول دون أن تطهر تلك العطايا قلبه من الأدران. وبما إننا مقبلون على آخر ليالي القدر وأهمها منزلةً وأعظمها مرتبةً علينا أن نُجِد ونجتهد في أن يكون وعاؤنا نظيفاً من الحقد والكراهية فنسامح من أساء لنا ونعفو عمن ظلمنا. وأن يكون نقياً من الذنوب وآثارها بالاستغفار الحقيقي والتوبة الصادقة والعزم على عدم العود إلى العصيان. كما يجدر بنا أن نوسع وعاءنا ثانيًا من خلال بذل كل ما في وسعنا من جهد للعبادة والطاعة في هذه الليلة والتنوع في العمل الصالح ما أمكن كالتصدق وإكساء الأيتام وإدخال السرور على المؤمنين وإصلاح ذات البين. كما لابد من التنظيم والتنسيق من جهة والاهتمام بالجانب الكيفي للعبادات من جهة أخرى، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "يا أبا ذر، ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه"(2). وفقنا الله وإياكم لإحياء هذه الليلة العظيمة والعمل الصالح فيها بفضل الصلاة على محمد و آل محمد.. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الرعد 17 (2) وسائل الشيعة ج4 ص63
اخرىبقلم: نجلاء المياحي كان رجلًا ينام الناس ويبقى مستيقظًا يفكر فيما يمكنه أن يعمل لأجلهم... يتأمل وجوههم التي غيرتها الشمس وأيديهم التي أنهكها العمل يحدثهم كثيرًا ليخفف عنهم بعض تعب الحياة... يتفحص شؤونهم ليلًا ليعطيهم ما يحتاجونه من مال أو طعام خفية، ملثِّمًا وجهه لكي لا يعرفوه، لكن أنى وعطره يفوح أينما ذهب ونظرات عينيه لا تفارق مخيلتهم أبدًا... ما إن يخرج ملثِّمًا وجهه بإحكام وعلى ظهره الصرة التي يحمل بها طعامًا وشرابًا لهم، حتى يبادروه بالسلام قائلين: السلام عليك يا أبا الحسن، لكنه يصرّ على أن يبقي وجهه مخفيًا وهو يعطيهم الطعام والشراب كي لا يرى الحياء في عيونهم... وبعد عمله الليلي كسائر الأنبياء في الاستمتاع بالليالي الطويلة عبر زرع البسمة والفرحة في قلوب الآخرين، يكفكف دموعه ويذهب لخلوته بربه ليدعو للناس بالهداية ولنفسه بالمغفرة والرضوان ويبقى ما بين راكع وساجد... حتى إذا أسفر الصباح سقط مغشيًا عليه، حاولوا أن يوقظوه فسمعوا الزهراء (عليها السلام) تقول: إنه مع ربه لا تقلقوا عليه، إنها الخشية التي تعتريه حين يقف بين يدي الله... لسنوات طويلة وهو يبتسم إذا ما ضحكوا... ويبكي إذا ما حزنوا... يأكل قليلًا ويطعهم أكثر... وإذا صادف يومًا أن اشترى ثوبًا اعطاه لشاب منهم وبقي على ثوبه وهو فارس العرب والعجم... ذات يوم وبعد أن انهكته الجراح في المعارك أراد شراء درع... تراجع وهو يتذكر بكاء الأيتام وأوضاع الناس المتعبين من الجوع والحصار قائلًا في نفسه: يمكنني أن أتحمل ألم السيوف في الحروب لكن لا يمكنني أن أتحمل ألم الجياع... هذه النقود تطعم بعض الأيتام حتى حين... يزرع الأراضي طوال نهاره وما أن تثمر حتى يهبها للفقراء لتكون لهم مأوى وعملًا... وينتقلوا من حياة الفقر والبؤس إلى حياة الكفاف والوسطية... المبدأ الذي آمن به الإمام كثيرًا وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يرسخه في المجتمع ويحارب به الأرستقراطيين الفاسدين من قريش، وهو يهيأ أرضًا ليعمرها لعباد الله، وإذا برياح الألم تعصف داره بوفاة أخيه وابن عمه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في حجره محملًا إياه بلاءً عظيمًا على فارس كبير أجمعت الأمم أن الهروب من سيفه شجاعة: (اسمه الصبر)... أصبر يا علي مهما حل بك من بعدي، أصبر ولا تقم حتى تجد معك أربعين رجلًا... أربعون فقط يا رسول الله؟ بعد عمر أفنيته لأجلهم، ألا أجد منهم أربعين ناصرًا؟! بكى النبي طويلًا لحزن الإمام على قلة الناصر، وصعدت روحه إلى السماء تاركةً الإمام في حيرة وهم عظيم. الآن أصبحت رئاسة أمور الدين والدنيا عليه ولكن أنى، والقوم لم تفارقهم الجاهلية بعد... أنى، والأرستقراطيون متربصون متى يتوفى النبي (صلى الله عليه وآله) كي ينقضوا على الخلافة... التفت محاولًا أن يجد معه من يساعده على دفن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فلم يجد إلا قليلًا من أصحابه وبعض بني هاشم... أين المسلمون؟ إنهم يكيدون أمرًا في السقيفة! وما الذي يكيدونه؟ يبدو أنهم سئموا من عدالة النبي (صلى الله عليه وآله) وحنّت دماؤهم الجاهلية ليعودوا إلى حياة أسلافهم. دعونا ندفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونرى أمرهم فيما بعد. وما أن انشغل بالدفن حتى جاء أبو سفيان ضاحكًا: يا علي لو شئت ملأتها عليك رجالًا! أدار الإمام وجهه عن أبي سفيان وقال وكأنه أراد أن يُفهِمه أني أعلم بقصدك يا أبا سفيان أنت تريد أن يتقاتل المسلمون ويبيد بعضهم بعضًا لتنتقم من النبي (صلى الله عليه وآله)، أجاهلية بعد الإسلام يا أبا سفيان؟! عاد الإمام علي (عليه السلام) إلى داره مكسور الظهر بأخيه ينتظر أن يطرق الناس بابه لمواساته، لكن أنى، والإنسان خُلق كفورا! تأمل الإمام مطولًا في الباب وقال في نفسه: كيف أمكن هؤلاء أن يتنكروا لي بعد كل هذه السنوات التي كنت فيها لهم الأب الشفيق؟ كيف أمكنهم أن يتنكروا لعهودهم وقسمهم لله ولرسوله بنصرتي وبيعتي؟ لحظات وإذا بسلمان يطرق الباب مع أبي ذر ومقداد الثلاثة الذين ما فارقوه أبدًا قائلين: انهض يا ابا الحسن إن القوم بايعوا كبيرهم! نهض الإمام علي (عليه السلام) وهو خائف على مصير الأمة والإسلام وغاضب من كل هذا الجهل والسفه الذي فيه الناس، كيف تؤول أمور المسلمين لمن لا يعرف شيئاً من أمور السياسة والإدارة والحكم؟ فصاح فيهم محاولًا إيقاظ عقولهم المخدرة بدماء الجاهلية: ألم تبايعوني في غدير خم أمام النبي (صلى الله عليه وآله)؟ ألم ينصبني رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليكم أميرًا من أول الرسالة؟ ألم تكونوا معي حين قال النبي (صلى الله عليه وآله): معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قلتم: اللهم بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره، وأخذل من خذله. قالوا: بلى، كنا معك يا أبا الحسن. قال: فما بالكم تبايعون أبا بكر؟ قالوا: إنها قريش أبت أن تكون لكم النبوة والخلافة! جر الإمام حسرة طويلة ونظر إليهم بعين تملؤها الشفقة والخيبة وهو يرى الخطأ الذي يرتكبونه بحق أنفسهم وكيف أنهم بأيديهم خربوا ما بناه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)من حضارة ودولة وتاريخ مشرق لهم. تلفّت الإمام حوله فلم يرَ إلا سلمان وأبا ذر ومقداد وبعض بني هاشم واقفين إلى جنبه وتذكر أمر النبي (صلى الله عليه وآله) له بالصبر حتى يجد أربعين رجلًا. ثم نظر إلى الجموع الغفيرة من الضالين الملتفين حول كبيرهم وتذكر أنه هارون الإسلام وهؤلاء كأصحاب موسى ما أن فارقهم نبيهم حتى استحبّوا الكفر على الإيمان فأدار بوجهه وذهب إلى قبر أخيه وقال: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) . وهكذا خسرنا الحاكم الذي لو تولى الحكم أول الأمر لصارت الجنة التي حُرمنا منها بأكلنا الشجرة على الأرض حلالًا طيبًا، خسرنا الرجل الذي تولى الحكم بعد ٢٥ سنة من الدمار والخراب فأدارها أربع سنوات بسياسة وحنكة وإدارة لم يكن لها نظير، حتى في حكم سليمان النبي وأبيه داوود. أربع سنوات شُنت فيها عليه أربع حروب طاحنة ومع كل هذا يدور بالزكاة في شوارع العاصمة ومدنها يطلب من الناس أن يأخذوها فيأبون ذلك قائلين لسنا بحاجة إليها يا أمير المؤمنين.
اخرىبقلم: زهراء حسام أنهت إعداد طعام الإفطار، أخلت ما في يديها، في عشرٍ مضين من شهر رمضان، لم تبقَ إلا دقائق حتى تحين فرحة الصائم الأولى.. تُبادر مجدداً، فقد اعتادت على أن تتخلل أعمالها المنزلية بتعهّد ثمرتها بالعناية والعَطف.. تلج إلى غرفة صغيرتها (طوبى)، افتقدتها من على سريرها، وهي أيضًا ليست على منضدتها التي تتخذها في العادة محلًا لمطالعة قصص أئمة أهل البيت بشغف وشرود.. إنها هناك في ركن الغرفة، تطأ سجادةً بيضاء مطرّزة بخيوطٍ ذهبية، ترتدي إحرام الصلاة، تساوي أطرافه على استحياء، تبذل جهدًا لإخفاء شعر ناصيتها... بقلبٍ انتصف بين شعور الشفقة والحب تطيل الأم نظرها لشفتي الصغيرة وقد بان جفافهما من الصيام، فقد دخلت سن التكليف الشرعي في هذا العام... أحسّت طوبى بوجود والدتها، رفعت رأسها وهي ترسم ابتسامةً تروي ظمأ الصائمين... جلست الأم على مصلاة ابنتها، اتسعت لكليهما رغم صغرها، كأنهما الياقوت والمرجان، قابلت عيناها، تهم بطرح سؤال يخالجها وتخشى أن الشعور الذي تتمنى أن يدبّ في شغاف ابنتها لم يحن بعد.. _بُنيّتي.. سكتت برهة... رمت بسؤالها دفعة واحدة: _ نور عيني هل أحسستِ الآن بالفقراء الذين لا يملكون ما يسد رمقهم؟ رفعت طوبى عينيها الناعستين باستغراب وقالت: أحسستُ بعطش الإمام الحسين يا أمي! هنا... ارتفع أذان المغرب... وطوبى تنتظر ذاك الأذان الذي يرتفع بـ: "ألا يا أهل العالم إن جدّي الحسين قتلوه عطشانًا".
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى