بقلم: نجاة رزاق الفضائلُ الأخلاقيةُ للحاكم: ثانيًا: الفضائلُ الاجتماعية: يتكلمُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) عن الأخلاقِ الاجتماعيةِ بدليلِ قوله (عليه السلام): "ثم اعلمْ يا مالك، إنّي وجهتُك إلى بلاد …"، ثم يوصيه بالعمل الصالح؛ فإنّ السيرةَ الصالحةَ هي ما يُجريه الله (تعالى) على ألسنِ عبادِه، يقول (عليه السلام): "فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الانْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ. وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالمحبة لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ،يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الأمر عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ". فقد أمر (عليه السلام) أنْ يكونَ العملُ الصالحُ هو الذخيرةُ ليومِ الآخرة، ولا يكونُ ذلك إلا باتباعِ مجموعةٍ من الصفاتِ الخُلُقية التي منها ما يلي: أولًا: عدمُ اتباع الهوى: إنّ متابعةَ الهوى توردُ الإنسانَ مواردَ الهلكات، وتُبعده عن خالقِه والطاعات، وقد نهى (عز وجل) عن اتباعِ الهوى في آياتٍ كثيرةٍ كقوله (تعالى): "وأما من خافَ مقامَ ربِّه ونهى النفس عن الهوى"(١)، ويقول (تعالى): "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"(٢)، وكذلك قوله (تعالى): "فاحكم بين الناس بالحقِّ ولا تتبعِ الهوى فيضلك عن سبيل الله"(٣) كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أخوفُ ما أخافُ عليكم اتباعُ الهوى وطولُ الأمل" أما الشُح بالنفس فهو البخلُ بها عن الوقوع في المعاصي، (الشح الذي يدعو إليه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) هو غيرُ الشحِّ المذموم في قوله (تعالى): "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المهتدون"، (وإنّما المرادُ بالشُحِّ أنْ لا يستجيبَ المرءُ لشهواتِ نفسهِ في كُلِّ ما تطلب ولو بالحرام، وتعدّي حدود الله، والاعتداء على الآخرين)(٤) وهي دعوةٌ بالصبر؛ فالصبرُ صبران؛ صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية. ثانيًا: الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم: حيث إنّ الولاةَ على مرِّ التأريخ نراهم يشمخون على الرعية، وينظرون إليهم نظرةً فوقية، يرونَ الناسَ أقلَّ شأنًا منهم بسبب المنصب الذي هم فيه؛ لذا على الحاكم العادل أنْ يُحبَّهم ويحترمَهم ويلطفَ بأحوالهم، ولا يكون عليهم كالسبُع الضاري الجريء على الصيد، الذي ينتهزُ الفرصة لأكلِ أموالهم، وما أجملها من استعارة حين يصفهُ الإمامُ (عليه السلام) بأنّه (يغتنمُ أكلهم). ثم يذكرُ (عليه السلام) سببين من أسبابِ الرحمةِ، فإنّهم إما أخٌ لك في الدين وأراد بذلك المسلمين، أو نظيرٌ لكَ في الخلق، وهو باقي الطوائف والملل. لقد جسَّد هذا العهد وهذا الكلام أروع صورِ العدالةِ والمساواة بين أبناءِ الشعبِ الواحد؛ فإنّهم قد يصدرُ منهم الزلل ويعرضُ لهم الخطأ؛ لعدمِ معرفتِهم بأحكامِ الدين الإسلامي؛ لذلك لابُدّ من العفوِ والصفحِ. كما أنّ المسلمين أيضًا قد يصدرُ منهم السهو والانشغال عن تطبيقِ جميع أوامرِ الوالي؛ لأنّهم غير معصومين، فالأخطاءُ تصدرُ منهم بالعمدِ والخطأ، لذلك على الوالي أنْ يُشعرَهم المحبة والعطف واللطف والصفح. وقد رغّبَ الإمامُ (عليه الصلاة والسلام) باتباعِ هذه الأمور بقوله: "مثل الذي يُعطيه اللهُ من عفوه" فكما إنّك أيّها الحاكم ترغبُ بالرحمةِ والعطفِ واللطفِ منه (تعالى) كذلك هم يأملون ذلك منك؛ لأنّهم يرونكَ فوقهم في الحكم ومالك أمرهم. ____________________________ ١-سورة النازعات :٤٠ ٢- سورة النساء : ١٣٥ ٣-سورة ص : ٢٦ ٤- مع الامام علي في عهده لمالك الاشتر ،محمد باقر الناصري : ٣٦
اخرىبقلم: نجاة رزاق أولًا: الفضائل الأخلاقية للحاكم الحاكم هو إنسانٌ قبل أن يكونَ حاكمًا، ويجبُ عليه أنْ يسوسَ الناسَ بما تُملي عليه إنسانيته وعقيدته التي ينتمي إليها. وإذا كان مسلمًا وجبت عليه بعض الفضائل الأخلاقية التي تُميّزه عن باقي الحُكّام. وقد قُسِّمت هذه الفضائلُ الأخلاقية إلى قسمين، أحدهما يكونُ بين الإنسان وخالقه (الفضائل النفسية)، والأخرى بين الإنسان وأفراد جنسه (الفضائل الاجتماعية). وسوف نذكرُ أولًا الفضائلَ التي تربطُ العبدَ بخالقه وفقَ ما جاء في وصية الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله، ومن أهمِّ تلك الفضائل:"أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ من نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إنّ ربي غفورٌ رحيم" أولًا: تقوى الله وإيثار طاعته: التقوى: من الوقاية، وهي الصونُ والحمايةُ بأنْ يجعلَ الإنسانُ بينه وبين غضبِ الله (تعالى) وقاية. وقد ذُكِرت التقوى في آياتٍ عديدة من القرآن الكريم يقول (تعالى): "واتقوا يومًا لا تُجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئًا"(١)، وقوله (تعالى): "ولو أنّهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير"(٢)، وقوله (تعالى): "واتقوا الله واعلموا أنّ اللهَ مع المتقين"(٣). فتقوى الله (تعالى) وإيثار طاعته من أهمِّ ما ينبغي أنْ يتميز به الحاكمُ؛ لأنّه إذا خاف اللهَ (تعالى) لن يجرؤ على معصيته، وسوف يعملُ وفقَ أوامره (تعالى). روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "التقوى ثلاثةُ أوجهٍ: تقوى الله في الله وهو تركُ الحلال فضلًا عن الشبهة وهي تقوى خاص الخاص، وتقوى من الله وهو تركُ الشبهاتِ فضلًا عن الحرام وهو تقوى الخاص، وتقوى من خوفِ النار والعقاب وهو تركُ الحرام وهو تقوى العام"(٤) ثانيًا: اتباعُ ما أمر به في كتابه: يقول (عزَّ من قائل) في مُحكمِ كتابه: "يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"(٥)، ويقول (تعالى): "يا أيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام ...لعلكم تتقون"(٦)، وقوله (تعالى): "وأقمِ الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"(٧) العلاقةُ بين العبادةِ والتقوى علاقةٌ وثيقةٌ جدًا، فلا ينالُ الإنسانُ التقوى إلا بالعبادة؛ لأنّها أفضلُ وسيلةٍ لتحقيقِ الكمال، وبها تتضحُ عبوديةُ الإنسانِ وتواضعه لخالقه الكمال المطلق (تبارك وتعالى). والذي يُميّزُ العبدَ المؤمنَ عن الفاسق هو الالتزامُ بالفريضةِ؛ فمتى ما طبّقَ أوامرَ الله ونواهيه وأقام فرائضه فإنّه سوف يُسعدُ في الدنيا، وينالُ حُسن المثوبة في الأخرى، قال (تعالى): "الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"(٨) ثالثًا: الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر : يدعو أميرُ المؤمنين الحاكمَ إلى أن ينصرَ اللهَ (تعالى) بيده وقلبه ولسانه؛ فإنّه قد تكفّل بنصرِ من ينصره إنّه قويٌ عزيزٌ، ويقول (تعالى): "ولينصرنَّ الله من ينصره"(٩)، وكذلك قوله (تعالى): "إنْ تنصروا اللهَ ينصرُكم ويُثبِّتُ أقدامكم"(١٠) ويقولُ (صلى الله عليه وآله): "من رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإنْ لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان". فالأمرُ بالمعروف وإنكارُ المنكر من الفرائضِ الواجبة على كُلِّ مسلمٍ؛ لأنّه يُحيي الناس معنويًا "ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعًا"(١١) إنّ في تركِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر بوار الدين واندثاره، وعندها لن تبقى فريضةٌ حتى الجهاد في سبيل الله (تعالى). ولا يخفى ما لتركِ هذه الفريضة من عواقب على المجتمع بأسرِه من ضعفِ الإيمان، والوقوع في الذنوب، والتعرضُ لغضبِ الله (تعالى)، والبؤس، وبروز القحط، ونقص الأرزاق، وقد تكفّل الباري (تعالى) بنصرِ من ينصره ويَقيهِ شر الفجار "ومن يتوكلُ على الله فهو حسبُه"(١٢) رابعًا: الابتعاد عن الشهوة: الشهوةُ مفهومٌ عام يُطلق على كُلِّ أنواعِ الرغباتِ النفسانية والميل إلى التمتُّع واللذة، وأحيانًا يُطلقُ على العلاقةِ الشديدة بأمرٍ من أمورِ الدنيا، أما في المفهوم الخاص فتُطلقُ على الشهوة الجنسية. وقد وردت الآيةُ التي ذكرها (عليه السلام) مقرونةً بهذه الخِصلة في قصةِ زُليخا مع نبي الله يوسف (عليه السلام)؛ لذا فإنّ الأرجح في مقصوده من كسرِ الشهوات هو المعنى الخاص. يقول (عز وجل): "واللهُ يُريدُ أن يتوب عليكم ويُريدُ الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا"(١٣) والشهوات هُنَّ المُهلِكات، وكُلّما سارَ الإنسانُ في طريقِ الشهواتِ خرجَ عن إنسانيتِه إلى الحيوانية، قال (تعالى): "إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلًا"(١٤) والشهواتُ التي ينهى عنها أميرُ المؤمنين (عليه السلام) هي الشهوات المُحرّمة؛ فإنّ الشهوةَ المحللةَ لا ضير فيها، فالإنسانُ يشتهي الطعامَ والزوجةَ، لكن شريطةَ عدم الإسراف. وقد قسَّمَ العلماءُ النفسَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ وفقَ آياتِ الكتابِ المجيد، فالنفسُ المُطمئنة وهي أرقاها، والنفسُ اللوامة، والنفسُ الأمّارةُ تلك التي تأمرُ صاحبَها بالسوء والشهوة وتدعوه إلى ارتكاب المعصية. يقول النبي (صلى الله عليه وآله): "طوبى لمن تركَ شهوةً حاضرةً لموعدٍ لم يره"(١٥) ـ___________________________ ١-سورة البقرة :٤٨ ٢- سورة البقرة : ١٠٣ ٣-سورة البقرة : ١٩٤ ٤-بحار الانوار ج ٦٧ :٢٩٥ ٥-سورة البقرة ٢١ ٦- سورة البقرة : ١٨٣ ٧- سورة العنكبوت :٤٥ ٨-سورة الرعد : ٢٨ ٩-سورة الحج : ٤٠ ١٠-سورة محمد :٧ ١١-سورة المائدة :٣٢ ١٢-سورة الطلاق :٣ ١٣-سورة النساء : ٢٧ ١٤-سورة الفرقان :٤٤ ١٥-تحف العقول عن آل رسول ،ابن شعبة الحراني : ٤١
اخرىبقلم: مرتضى الأغلامي دائمًا ما تُثارُ شبهاتٌ على الدينِ، ولعلَّ نصيبُ الأسدِ منها ارتبط بالعلماءِ وبرجالِ الدين والإصاباتُ كثيرة!! سنركز في هذا المقال على واحدةٍ من تلك الشبهات، حيثُ يقولُ البعض ويدّعي أنّ رجالَ الدينِ قد حوّلوا الدينَ إلى كهنوتٍ، وحوّلوا العلاقةَ بين الإنسانِ وربِّه إلى علاقةٍ كهنوتية؛ ولتوضيح صحةِ دعواهم من عدمها سنتكلم بعدةِ نقاط: الأولى: ما المقصود من الكهنوت؟ الكهنوتُ: مفردةٌ مأخوذةٌ من الكهانةِ ومن كاهن، وكانت تُستعملُ عند العرب حتى في الجاهلية. فالكاهنُ هو الشخصُ الذي يرتبط بالله (تعالى)، بحيث هو الذي يوصلُ للناس تعاليمَ الإلهِ؛ فهو الناطقُ الرسمي باسمها. وقد ارتبط الكاهن بمعرفةِ الغيب من هذه الجهة؛ فتكهَّن أيّ عَلِم الغيب في بعض معانيها. ثم بعد ذلك ارتبط مصطلح الكهانة بالكنيسةِ، فصار تعبيرًا كنسيًا بامتياز؛ وذلك لأنّ في الكنيسةِ منصبًا اسمه (الكاهن). والكاهنُ هو الشخصُ الذي يتفرّغُ لدراسةِ علمِ اللاهوتِ الكنسي فترةً طويلةً، فإذا وصل إلى مرتبةٍ معينة يُعطى سرُّ الكهنوت، ومنذُ ذلك اليوم يُسمى بـ(كاهن) نعم، بعد الثورةِ الفرنسيةِ توسّعَ استعمالُ هذا المصطلح، حيثُ أصبح يُطلقُ على اختصاصِ فئةٍ بشيءٍ معينٍ، وترى أنّه حقٌّ لها، مثلُ هؤلاءِ يُسمى بـ(كهنوت). النقطة الثانية: الشُبهة: هل يوجد كهنوتٌ دينيٌّ في الوسطِ الديني، لاسيّما في مدرسة أهلِ البيت (عليهم السلام)؟ البعضُ يقولُ: نعم، موجودٌ، ويتمثّلُ في مسألةِ التقليد، حيثُ العاميّ(1) لابُدّ أنْ يأخذَ أحكامَه من المجتهد، وإلا فعمله باطلٌ. والعامي لا يحقُّ له العمل بما توصّل له هو، فهذا ممنوعٌ، وهذا هو الكهنوت، حيثُ حُصِرتِ الفتوى وأخذ الأحكام الشرعية بالمجتهد فقط، ومُنِعَ سائرُ الناسِ من ذلك حتى وإنْ كانوا متعلمين. وفي مقامِ الجوابِ نقول: أولًا: من قال: إنّ مدرسة أهلِ البيت (عليهم السلام) تُلزِمُ العامي بالتقليد حيثُ يمكن له أنْ: 1/ يكون مجتهدًا، والاجتهادُ ليس حكرًا على المراجع. 2/ يحتاط، بأنْ يجمع بين أقوالِ العلماء في المسائل المُختلف فيها بينهم والتي يحتاجُ في إفراغ ذمته احتياطًا إلى الجمع بينها. 3/ يُقلِّد، إذا لم يكن مُحتاطًا ولا مُجتهدًا. فالمكلفُ أمام ثلاثةِ طرق، والأفضلُ أنْ يكونَ محتاطًا؛ لأنّه سبيلُ النجاة. إذن لا حصر في المقام، ومن ثم فالتقليدُ ليس كهنوتًا. ثانيًا: ما هي دائرة التقليد؟ *هل يقلّد المكلفُ المجتهدَ في الأصول الاعتقادية؟ -لا يجوز التقليد في الأصول. *وهل يُقلّد المكلفُ المجتهدَ في كلِّ الفقه؟ - ليس كلّ الفقه تقليديًا، بل الضرورياتُ لا تقليدَ فيها، إذنْ دائرةُ التقليدِ ليست عامة، بل دائرته في الفقه النظري فقط. وحتى في الفقه النظري هذا ليس كلُّ شيءٍ فيه تقليدًا، حيثُ تشخيصُ الموضوعاتِ يكونُ على المقلِّد نفسه، بل يمكنُ له أنْ يُخالفَ المجتهد إذا علِمَ بضعف مستنده- على تفصيل في الفقه- فأين هذا من الكهنوت؟! وأين من إسقاطِ بعضِ المثقفين هذه المصطلحات على رجالِ الدين في مدرسةِ أهل البيت (عليهم السلام)، وما هو إلا إسقاطٌ فاشل. ثالثًا: قد يُقالُ: حتى التقليد في الأحكام الشرعية النظرية لا أريدُ الرجوع فيها إلى رجلِ الدين المجتهد. فنقول: هذا الرجوع صغرى لكبرى قاعدةٍ عقلائية، مُسلَّمة، وكلُّ حياتِنا تقومُ عليها، وهي رجوعُ غير المُتخصص إلى أهلِ الاختصاص، فإنْ كنتَ ترى في التقليد كهنوتًا فحياتُك كُلُّها كهنوتية!! النقطة الثالثة: قد يقولُ شخصٌ: سلّمنا بالرجوع إلى المتخصص، ولكن لا نُسلِّم أنّ المجتهدين أهلُ تخصص؟ فإشكالي في الصغرى، فلا أسلِّمُ أنّ الدينَ تخصصٌ، بل الدينُ للجميع، كُلُّنا سواسيةٌ أمامَ الدين، فلا تفرقةٌ أبدًا، وقد يقول: إنّي دكتور في التخصص الفلاني، وقد درستُ في أفضلِ الجامعات، فلا أُقلد، إذ لا تخصص في الدين، ومن ثم يحقُّ لي أنْ آخذَ بفهمي. وفي مقام الجواب، نقول: إنَّ هذا الكلام مبنيٌّ على عدّةِ خلطاتٍ بين عدّةِ أمور: الخلط الأول: صاحبُ هذه الدعوة خلَطَ بين الانتماء للشيء وبين لزوم فهمه، فإذا انتميت لجهةٍ من الجهات، هل بالضرورة يقتضي هذا الانتماء الإحاطة بكلِّ جهاتها؟ فمثلا أنا أنتمي لدولةٍ، هل يعني هذا معرفتي بكلِّ قوانينها؟ قطعًا لا ضرورة في ذلك، فقد ينتمي الشخص لدولة ولا يعرف عن قوانينها شيئًا؛ لذلك يوكلُّ محاميًا للدفاع عنه في المحكمة حتى وإنْ كان مطلعًا على القانون بشكلٍ إجمالي؛ لأنّه يجهل بتفاصيله، كما أنَّ فهمه للقانون ليس بحجة. وكذا فالانتماءُ إلى الدين حقٌّ للجميع ولكن لا يعني ذلك قدرة المنتمي له على فهمِ نصوصِه لمجرّدِ انتمائه، فهذا خلطٌ بين حقِّ الانتماء وبين حُجّية فهم ما ينتمي إليه، إذن في الانتماء يوجد تساوٍ، ولكن في الفهم لا يوجد تساوي. الخلط الثاني: وهو مُركبٌ من شقين: أ- هل اطلاعُ شخصٍ على شيءٍ يجعلُ منهُ قادرًا على فهمِ ذلك الشيء؟ فقد يقولُ شخصٌ: اطلعتُ على كلِّ ما اطلعَ عليه المجتهد، ولكن نقول: هذا يجعلُ منك مُثقفًا، ولا يجعلُ منكَ مُختصًا، وهناكَ فرقٌ بين الثقافةِ والاختصاص. فلو قرأتَ ألفَ كتابٍ في الطبِّ مثلًا فإنّك ستكونُ مُثقفًا بثقافةٍ طبية، ولكن لا تصير بذلك طبيبًا قطعًا؛ لأنّ المثقف من عنده سعة اطلاعٍ، ولكن كلامه يبقى سطحيًا، خلاف المُتخصص الذي يتكلم بعمقٍ. ثم إنَّ الثقافةَ في علمٍ ما لا تُعطي للشخص الحقَّ في إبداء رأيه في ذلك العلم كمتخصصٍ، وعليه، فكونه مثقفًا في الجانب الديني لا يُعطيه الحقّ في إبداء رأيه كمتخصصٍ، كأن يُفتي مثلًا. ب- كونُ الإنسانِ متخصصًا في علمٍ من العلوم، لا يجعله مُتخصصًا في علومٍ أخرى، وهذا واضحٌ. فرجلُ الدين ليس له حقٌّ أنْ يقول: أنا أتكلمُ في كلِّ شيءٍ، وهكذا بالنسبةِ إلى سائر التخصصات غير الدينية، لا يحقُّ للمتخصصِ فيها أنْ يتكلم في الدين، بمعنى يعطي رأيًا يكونُ حجةً على الآخرين وعلى نفسه، وعليه يلزم أنْ يرجع غير المتخصص إلى المتخصص. سؤال: ما هو الدليل على أنَّ آلية الاستنباط هي التخصص؟ الجواب: عمليةُ الاستنباط هي عمليةٌ تدخلُ فيها عدةَ علومٍ، فإنْ أنت إذا سلَّمت أنّ هذه العلوم هي تخصص فأنت متخصص، التصحيح فإنْ أنت أحطت بكلِّ هذه العلوم فأنت متخصص. ومقدماتُ عمليةِ الاستنباط هي: 1/ مصادر التشريع عندنا هي: القرآن الكريم والسنة الشريفة، والقرآنُ الكريم نصٌ بالعربية، فلا يُمكنُ لأيِّ شخصٍ فهمه بغيرها، أو بغير إحاطته بجميع العلوم العربية المتعددة. وعليه، لابدّ للمستنبط أنْ يدرسَ علوم اللغة العربية جميعها وبدقةٍ. أما السنة الشريفة فنتعامل معها من ثلاثٍ زوايا: أولاها- بحث الصدور، أي صدور الرواية، هل أنّها ثابتة للمعصوم أم لا؟ وهذا يتوقف على مراجعة التراجم، وعلم الرجال، وعلم الدراية للحكم على سندِ الروايةِ بكامله. كما يحتاجُ إلى البحثِ عن صحةِ نسبةِ الكتابِ لصاحبه، وهل إنّ هذا الكتابَ هو نفسُ الكتاب الأصلي؟ أم نَقُصَ منه أو زيدَ عليه؟ وهنا لابُدَّ من الرجوعِ إلى علمِ المخطوطات، هذا إذا كانت نظرية الفقيه هي الاعتماد على السند. وتوجدُ نظريةٌ أخرى هي عدم الاعتماد على السند فقط، بل نعتمد على القرائن أيضًا، فمتى ما كانت القرائن تعطينا قطعًا بصحةِ صدور الحديث نأخذ به، كأن يكون الحديث موافقًا للقرآن الكريم. ثانيها- فهم دلالة النص، فنحتاجُ إلى الإحاطةِ بعلوم اللغة. ثالثها- بحث جهةِ الصدور، فمعرفتنا بصحة الصدور، وبمعنى متن الرواية ليست كافيةً، إذ لا بُدَّ من بحثٍ آخر وهو هل إنَّ الإمامَ كان جادًا في هذا المعنى، فقد يكونُ كلامه تقيةً مثلًا. ولأجلِ معرفةِ أنّ الفتوى في هذه الرواية كانت لتقيةٍ أم لا يلزمُ النظر فيها، هل كانت موافقةً للأطراف التي اتقى منها الإمام لذلك الزمان وذلك المكان، وعليه، لابُدّ أنْ نعرفَ الآراء في زمانه ذاك، حتى نرى مدى موافقة فتوى الإمام لها، فلابُدّ أنْ نعرفَ الفتاوى للمذاهب في كلِّ زمن الأئمة (عليهم السلام). وهذه العلوم كُلُّها تخصصية، إذن عملية الاستنباط اجتهادية، ومثل هذه الدعاوى غير معقولة؛ إذ مثل هذه الدعاوى قد يكون(2) غرضها إدخال المجتمع المؤمن في الفوضى؛ لأنّ عدم الرجوع لأهل الاختصاص في الدين يصنعُ الفوضى؛ ولذلك كانت المرجعية (باعتبارها الجهة المتخصصة في الدين) صمامَ أمانٍ، أما إذا كانتِ الفتوى لكلِّ من هبَّ ودبَّ فتحصل فوضى عارمة ويصيرُ كلُّ شخصٍ له حقُّ الفتوى. ومن هنا نحتاجُ أنْ نكونَ أصحابَ بصيرةٍ ولا ننخدع بسرعة، وعندما نسمعُ أيَّ دعوى من هذه الدعاوى فلننظر إلى ما ورائها(*) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) لا يُراد من كلمة (العامي) معنىً سلبيًا، بل يُرادُ منه: غير أهل الاختصاص، فيُطلق على كلِّ مقلِّدٍ حتى طلاب العلم. (2) وهذا ليس من باب نظرية المؤامرة، بل هذا واقعٌ حاكمٌ، ومحتملٌ قويٌ وواردٌ. (*) أساس هذا المقال محاضرةٌ لسماحة الشيخ أحمد سلمان (حفظه الله).
اخرىبقلم: فاطمة الركابي قال (تعالى): {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:256]. إنَّ أساس تعامل النظام الديني مع الإنسان هو وفقَ مبدأ أن لا يُجبر على أيِّ اختيار، ويبقى مسؤولًا وحرًا في اتخاذِ أيِّ قرار، فإنْ كان من أهلِ الرشد باتباع ما تُمليه عليه فطرته فهو سيسلمُ وينجو، أما إن اختار الغيّ فسيهلك. وحبلُ الثبات للبقاء في منطقةِ الأمان والاستقامة بالكفر والبراءة من الطاغوت، والإيمان والدخول في ولاية الله (تعالى) هو "التمسك بالعروة الوثقى" التي لا يُمكنُ أنْ تنقسمَ أو تزول؛ لأنّها مُرتبطةٌ بربِّ السماء، ونور رسالته، كما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "... معاشر الناس! من أحبَّ أنْ يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصامَ لها فليتمسكْ بولاية علي بن أبي طالب، فولايتُه ولايتي، وطاعتُه طاعتي. معاشرَ الناس! من أحبَّ أنْ يعرفَ الحُجةَ بعدي فليعرفْ عليَّ بن أبي طالب. معاشر الناس! من سرَّه ليقتديَ بي، فعليه أنْ يتوالى ولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريتي، فإنّهم خُزّانُ علمي"(1). وبعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى، كان يستوجبُ وجود من يخلُفه في الأرض، إذ فُطِرَتِ البشريةُ منذ أول خلقتها على أنَّها تحتاجُ لقائد، والله (تعالى) لم يُخلها يومًا من القيادةِ الحقّة، المعصومة، التي يمثلها الإنسانَ الكامل؛ لتهديها وتأخذ بأيدي من ينقاد إليها لصراطه المستقيم. وفي قوله (تعالى): {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ}[الزمر:١٧]، إشارةً لفعلين بهما يبلغُ العبدُ الخيارَ الصحيح هما (التجنب) و(الإنابة). إذ يُمكنُ أنْ نفهمَ من (التجنب) هو الابتعاد عن الشيء، وركنُه جانبًا، وقوله (أَن يَعْبُدُوهَا) - كما يبدو- أنَّ مفهوم (العبادة) هُنا عامٌ، أي يشملُ خدمةَ الطواغيتِ، دعمهم، تأييدهم، العمل معهم، الإصغاء والسكوت على فسادهم (كما ورد من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده)، فهذا اقترابٌ وليس ابتعادًا (اجتناب)، فهو سيكون ممن يحملُ روحيةَ الطغاة، وجزءًا من مشروعهم الظلامي المفسد، وتحقيقُ الاجتناب يكونُ عبر الفعل الثاني. إذ التجنب -كما تُبيّن الآية- يتطلبُ (الإنابة)، أي الرجوع لله (تعالى) في كُلِّ قولٍ وسلوكٍ، فالدخولُ بولايةِ الله (تعالى) والتقرُّبُ من أهلِ الحقِّ، وخدمةُ المشروع الإلهي، وفضحُ حقيقةِ منهجِ الطاغوت، وتبيين مساوئه، كُلُّها تُحقِّقُ مفهومَ التجنبِ في النفس، وتُحقِّقُ العبودية لله (تعالى)، وتقتلُ بذورَ الطغيان فيها. لذا في الآيةِ التي تليها نقرأ قوله (تعالى): {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر:18]، فأهلُ التعقلِ المهديون لن تنطلي عليهم أفكارَ وأساليبَ الطواغيت، بل هم من أهل الوعي وحُسنِ الاستماعِ والتمييز. فالخطورةُ بدءًا ليست في القياداتِ الظالمة، والطغاة، بل في أفرادِ المجتمعات المُلتفّة حولَ هؤلاءِ الطغاة، فهم قد خرجوا من قانونِ العبودية لله (تعالى)، وممن فقدوا رشدهم، وآثَروا مصالحهم الشخصية الدنيوية وزينة الحياة الدنيا ففرحوا بأضوائها، وعَموا عن رؤيةِ حقيقةِ خلوِّها من الأنوار التي لا يُمكِنُ تحصيلُها إلا باتباع أهلِ النور الإلهي، والمنهج للشريعة الإلهية التي أرسلت إليهم. فمن لم يُصغِ، أو أصغى لتبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يَستقِمْ على عهده في تولّي من ولَاهم عليه من بعدِه على امتدادِ تلك الأزمنة إلى خاتمِ الأئمة (عجل الله (تعالى) فرجه)، هو ممن لم يجتنبْ ذلك الطاغوت الذي في داخلِه، فطغى واستكبر عن طاعة أمرِ ربِّه ورسوله، فصعبٌ عليه الانقياد لولاةِ أمره، وقد اشترك في صناعةِ طاغوتِ زمانه، ولأنه ممن لم يتمسكْ بالعروةِ الوثقى سيكونُ بذلك مصيرُه الهلاكَ في الحياة الأخرى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (١) غاية المرام: ٢٤٤.
اخرىبقلم: شفاء طارق الشمري بينما كان ذلك العجوزُ جالساً على شُرفةِ منزله المُطلِّةُ على بقيةِ البنايات والتي يُمكنُه من خلالها أن يرى حركة الحياة، انتبه للكوبِ الذي بيده وقد نفدت منه القهوة. فقام متعاجزًا ليُحضِّر لنفسه القهوة؛ فهو يعيشُ وحيدًا في هذه العمارة منذُ أربعين سنة، وها قد شارفَ عمرُه على السبعين، لا عملَ له ولا عائلة، حياتُه عبارةٌ عن كوبِ قهوةٍ وشُرفةِ منزلٍ يتأملُّ بها كُلَّ صباح. فتح خزانةُ المطبخ فأخرج علبةَ القهوة منها، ثم نظر إلى علبةِ السكر فوجدها خاليةً تمامًا، ضحك وقال: يبدو أنّ عليّ أنْ أشربَ القهوة مُرةً. ثم قال: لقد كان لديّ الكثير من السكر ولكنّي أسرفتُ في استخدامه كثيرًا. أحضر كوبَ القهوة المُر ثم تناوله بمرارة، ثم ضحك بصوتٍ عالٍ قائلًا: هذا العمر كحباتِ السكر، ضيّعتُها طوالَ حياتي، وأسرفتُ فيها حتى جاءَ اليومُ لأحس بها وبمرارتها. وعمري هذا مثل هذه الحبات ضيّعتُ حلاوتَه وسكره، والآن أعيش في مرارة ضياعه مني، ثم سقطت دمعةٌ من عينه وقال: إنّها مُرة. العبرة: لا تُضيّع لحظات حياتك الآن، ولا تسرفْ بها دونَ استغلالها بتطوير ذاتك وفي أن يكون لك كيانٌ في المجتمع، وتترك أثرًا مهمًا في حياتك وفي بلدك ومجتمعك، لا أنْ تلهو وتلعب وتُضيّع حباتِ سكر لحظاتِك وريعانِ شبابك، لتقول في النهاية: إنّها مُرة.
اخرىبقلم: شفاء طارق الشمري ذلك التمّارُ البسيطُ الذي لا تنظر إليه إلا وتشعر بالود والاحترام، وجهُهُ النوراني وملامحُه الوقورة وهدوؤه، يسيرُ في الكوفة فجرًا مبتسمًا لنسيمها العليل، جوها الهادئ لا تسمع فيه إلا أصواتَ المُصلين والقائمين ليلهم.. كان يبتسم لهذا اليوم؛ فنسيمُ الفجرِ كان خاليًا من أنفاسِ المنافقين، لكن يعتصرُ قلبُه ألمًا عندما يرى قصرَ الإمارة الذي تعلوه أصواتُ الطرب والغناء وتفوحُ منه رائحة الخمر. سار ميثم كعادته ليسقي نخلته التي لم تكن نخلةً فقط بل هي صديقته التي يعلم أنها ستحمله يومًا في شدته. جلس عند النخلة وأسند ظهره وبدأ يستذكر أيامَه الجميلة مع معشوقه، ومناجاةَ ذلك البليغ في جوف الليل في صحراء مظلمة، وعدْلَ من لم ينم يومًا خوفًا أنْ يكون هناك يتيمٌ جائعٌ. كان معشوقه أميرًا ولكنه كان فقيرًا، لم يكن ممن يرتادون القصور بل كان يسكن في بيتٍ بسيطٍ ليجلس على كرسي القضاء، ويحكم بالعدل بين الناس. آهٍ ما أروعك يا أمير المؤمنين .. تعلّم ميثمُ من فيضِ المدرسةِ العلوية علومًا كثيرةً، وكان كثيرًا ما يسمعُ ويحفظُ من كلامِ أمير المؤمنين (عليه السلام). وفي يومٍ ارتقى ابن زياد المنبر طاعنًا بالعترة واصفًا الحسين (عليه السلام) بالخارجي، اعترضه ميثم وبات يتحدثُ عن أهل البيت (عليهم السلام)، فرُميَ في السجن، لم يكن سجنًا لميثم بل كان مكانًا لعشاقِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، كالمختار الثقفي وغيره. لقد أصبح هذا السجن مأوىً وبيتًا للشيعة أعدّه ابنُ زيادٍ لهم.. وهناك، دارَ الحوارُ بين ميثم والجلّاد عما أخبره به أميرُ المؤمنين (عليه السلام) عن جلده وصلبه، فقتلوه وقطعوا يديه ورجليه ولسانه وفاضت روحه الطاهرة العاشقة لله (تعالى) لتلقى معشوقها في جنة الفردوس. هكذا هي قصصُ العاشقين، وقصةُ ميثمَ قصة عشقٍ لا تنتهي، فقد وصل به حبُّ الأمير (عليه السلام) إلى أنْ قالوا عنه مجنون، وختم كتاب قصته بدمه الطاهر ليُدعى بعاشق حيدر. يا تُرى متى نكتبُ قصةَ عشقنِا مع أمير هذا الزمان؟ وماذا سنكتب؟ هل كنا مع إمامِ زماننا كميثمَ مع إمام زمانه؟ أين ميثم زماننا ؟ صاحبُ الزمان (عجل الله فرجه) يُريدُ منا أنْ نكونَ كميثم، لا أن نطعنَ بقلبه الطاهر بسيوف بني أمية.
اخرىبقلم: صفاء الندى الصحابيُّ الجليلُ والمجاهدُ، ذو الشخصية المُلهِمة والثابتة، ميثمُ التمّار الكوفي (رضوان الله عليه)، كان عبدًا عند امرأةٍ من أهلِ الكوفة، اشتراه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ثم أعتقه.. امتهن بيعَ التمرِ في السوق؛ ليكفَّ نفسَه عن الحاجةِ للناس، ويعيش حرًا كريمًا.. وفي حكومةِ أمير المؤمنين (عليه السلام) عمل في شرطة الخميس، وهم جماعةٌ ممن شارطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) على الجنةِ مقابلَ الوفاء والتضحية والإقدام. والخميس بمعنى الجيش؛ لأنّه خمسُ فرق: المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساق.. أصبح من حواريي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحدَ خاصتِه الثقات، عالمًا بتفسيرِ القرآن ورواية الحديث، وهو من الذين أطلعهم أميرُ المؤمنين (عليه السلام) على خفايا المستقبل، وهو علم المنايا والبلايا.. والمنايا: جمع مَنِيَّة، وهي الموت ومفارقة الدنيا، فهو مُطّلعٌ على آجالِ الناس، ويعلمُ أين ومتى يموتون؟. والبلايا: جمع بَلِيَّة، وهي المصيبة والمحنة، ومن كان له حظٌّ من هذا العلم، فهو مُطّلعٌ علی الحوادثِ والوقائعِ التي تستدعي الاختبار، وتردُ فيها المصائب.. وكما أنّه يعلمُ بالناس متى يموتون وأين، فهو (رضي الله عنه) على علمٍ بالكيفية التي سيُقتلُ بها ومتى وبأمر من؛ فقد أخبره أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بذلك إذ قال له ذات يوم: "إنّك تؤخذُ بعدي، فتصلبُ وتُطعنُ بحربة، فإذا جاء اليوم الثالث ابتدر منخراك وفوك دمًا، فتُخضّبُ لحيتك، وتُصلبُ على بابِ عمرو بن حريث عاشر عشرة، وأنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة. وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلبُ على جذعها" فأراهُ إيّاها.. وكانَ ميثمُ يأتيها فيصلّي عندها ويقول: "بوركتِ من نخلةٍ، لكِ خُلِقتُ، ولي غُذّيتِ" فلم يزل يتعاهدها حتى قُطِعت وبقيَ جذعُها. وقد قُتل (رضوان الله عليه) بأمر الحاكم ابن زياد سنة ٦٠هجرية قبل واقعةِ الطفِّ بأيامٍ قلائل؛ لأنّه رفض التبرؤ من الإمام علي (عليه السلام). نرى أنّ ميثمَ التمّار قد عشقَ النخلةَ التي أُنبئ أنّه سيُصلبُ عليها، فمن منا يعشقُ شيئًا يؤذيه حدّ الموت؟! من منا يستأنسُ برؤية شيءٍ كلما مدّ بصره إليه تتراءى له دماؤه وهي تسيلُ عليه من كُلِّ جانب؟! إنّها لم تكن نخلةً وحسب تلك التي عشقها ميثمُ التمّار، بل كانت.. عرينًا للولاء، وثيقةً للوفاء معراجًا للأتقياء، شجرةً تحملُ جسدًا أُبيدَ بحُبِّ علي، شجرةً تحملُ روحًا هامتْ بحُبِّ علي.. فجديرٌ أنْ يقدّسها كُلُّ ما في الكون حقيقةً ومعنى.. سلامٌ على جسدك المُعذَّب في ظُلمةِ السجون وأمامَ الملأ.. سلامٌ على لسانِك الناطق بالحقِّ تحديًا للطغاة، فقطعوه غيًا وضغينة.. سلامٌ عليك إذ بذلتَ كُلَّ ما لديك، وتحمّلتَ قسوةَ الظالمين فداءً للدين والإمامة الحقة.. سلامٌ على الذين إذا قرأنا عن سيرتِهم نشعرُ بالخجلِ والوجلِ من أنفسِنا التي لا تحتملُ وخزَ إبرةٍ في سبيلِ الله (تعالى).
اخرىكانتْ سفرةً فيها الكثيرُ من المتاعب والآلام، وفيها الكثيرُ من الدروسِ والعبر، فما هي نهايةُ هذه السفرة؟ المركبُ واحدٌ ولكنِ النوايا مختلفة الآنَ قاربتِ الرحلةُ على الانتهاءِ، فصاحبُ القلبِ السليمِ ضاحكٌ مستبشر، إنّها النهايةُ السعيدةُ، إنّها الجنةُ، وأما الذي غرّتْه الدنيا .. فالآنَ أدركَ أنَّ الطريقَ الذي سلَكَه مظلمٌ لم يرَ النورَ فيه.
اخرىبقلم: حنان الزيرجاوي كيف اقتنعت بعضُ الشعوبِ العربية بأنْ جعلت من مقتلِ الحُسين (عليه السلام) عيدًا؟ لقد استغلَّ بنو أمية سلطتهم في الشام؛ لتأسيس قواعدَ إعلامٍ مُضللٍ مسمومٍ مُنحرفٍ من أجلِ الوصولِ لمآربهم، وقد أعانهم على ذلك جهلُ الناسِ آنذاك وعدمُ معرفتِهم بإمامِ زمانِهم وبُعدهم الجغرافي عن المدينة المنورة ومكة. وليس غريبًا على بني أمية ذلك؛ فمنذُ بدايةِ توليهم للسلطة حاولوا بكلِّ الطرق السيطرة على عقولِ الناس وبثِّ السمومِ الفكرية وبثِّ الجهلِ في كُلِّ جوانبِ المجتمع، أليسوا هم من قالوا بدهشةٍ حين بلغَهم خبرُ استشهادِ أميرِ المؤمنين (عليه السلام): "وهل كان عليٌ يصلي؟!" إلى أنْ وصلت خستُهم ونذالتُهم مراحلَ متقدمةً جعلت يزيدَ (أخزاه الله) يأمرُ بقتلِ الإمامِ الحُسينِ وأهل بيته (عليهم السلام)، وسبي بناتِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) وسوقِهن من كربلاءَ إلى الشام، حيث أقنعوا أهلَها بأنّ المقتولَ رجلٌ خارجي، كان يريدُ بثَّ الفتنةِ والفرقةِ في المجتمع، وإنّ هذا السبيَ كسبيِ الخوارجِ أو التركِ والروم. وقد أعدّتِ السلطةُ الأمويةُ العُدّةَ للتضليلِ الإعلامي باتخاذها إجراءاتٍ تصبُّ في مصلحةِ مشروعها الخبيث، فعملتْ على جمهرةِ أهلِ الشام لاستقبال هذا الركبِ مع الإيحاء المستمر بأنّ هؤلاءِ من الخوارج. كما تمَّ توظيفُ فقهاءَ السوء لتحريفِ ووضعِ نصوصٍ باستحبابِ صومِ يومِ عاشوراء، وأنّه يومٌ مباركٌ له في السُنةِ ما لهُ من الفضل. حتى إنّ الكثيرين منهم صُدِموا بمضامين الخُطبةِ التي ألقاها الإمامُ السجادُ (عليه السلام) على أعوادٍ ارتقاها مُبينًا فيها حسبه ونسبه وصلته برسولِ الله (صلى الله عليه وآله) ففضحَ زيفَ وكذبَ بني أمية أمامَ مجتمعٍ لم يكنْ لديه العلمُ والدرايةُ بذلك. والدليلُ على ذلك ما جرى بين الإمامِ زينِ العابدين (عليه السلام) من حديثٍ مع الشيخِ الشامي بعد أنْ أقيمَ السبي على درجِ بابِ المسجد، الذي أقبلَ حتّى دنا منهم، وقال: الحمدُ للهِ الذي قتلكم وأهلككم، وأراحَ الرجالَ من سطوتِكم، وأمكنَ أميرُ المؤمنين منكم! قال له الإمامُ زينُ العابدين (عليه السلام): يا شيخَ هل قرأتَ القرانَ؟ فقال: نعم قرأتُه. قال (عليه السلام): فهل عرفت هذه الآية: "قُلْ لا أسألُكم عليه أجرًا إلا المودةَ في القُربى"(1)؟ قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك. فقال علي [عليه السلام]: فنحنُ القُربى يا شيخ! فهل قرأت هذه الآية " واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فإنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى(2)"؟ قال: نعم قال علي [عليه السلام]: فنحن القربى يا شيخ وهل قرأتَ هذه الآية: "إنّما يُريدُ اللهُ ليُذهبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا"(3)؟ قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك قال علي [عليه السلام]: فنحنُ أهلُ البيتِ الذين خصصنا بآيةِ الطهارة يا شيخ! فبقيَ الشيخُ ساكتًا نادمًا على ما تكلّمَ به وقال: باللهِ إنّكم هم؟ فقال علي بن الحسين [عليه السلام]: تاللهِ إنّا لنحنُ هم من غيرِ شكٍ، وحقِّ جدِّنا رسولِ الله إنا لنحنُ هم. فبكى الشيخُ ورمى عمامته، ورفعَ رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنّي أبرءُ إليك من عدوِّ آلِ محمدٍ من جنٍ وإنسٍ ثم قال: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم، إنْ تُبتَ تاب الله عليك، وأنت معنا فقال: أنا تائبٌ فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمرَ به فقُتل(4) ومن الأدلةِ على ضخامةِ الإعلامِ المُضِلل من قبلِ بني أمية بتجهيلِ الناسِ ما حدثَ في مجلسِ يزيدَ (لعنه الله)، إذ قام إليه رجلٌ من أهلِ الشام أحمر، فقال: يا اميرَ المؤمنين هَبْ لي هذه الجارية [يعني فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)] فارتعدت وظنت أنّ ذلك جائزٌ لهم، فأخذتْ بثيابِ عمّتِها التي كانت تعلمُ أنّ ذلك لا يكون، فقالت السيدة زينب (عليها السلام) للشامي: كذبتَ واللهِ ولؤمت والله، ما ذلكَ لك ولا له فغضب يزيدُ وقال: كذبتِ واللهِ إنّ ذلك لي، ولو شئتُ أنْ أفعلَ لفعلتُ قالت: كلاّ والله ما جعل اللهُ لك ذلك؛ إلّا أن تخرجَ من ملّتِنا وتدينَ بغيرها. فاستطارَ يزيدُ غضبًا وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدينِ أبوكِ وأخوكِ قالت زينب: بدينِ الله ودينِ أبي ودينِ أخي اهتديتَ أنتَ وأبوك وجدّك إنْ كنت مسلمًا قال: كذبتِ يا عدوّةَ الله قالت: أنتَ أميرٌ، تشتمُ ظالمًا وتقهرُ بسلطانك فكأنّه استحيا وسكت. وعاد الشامي فقال: هَبْ لي هذه الجارية فقال له يزيدُ: اعزبْ وهبَ اللهُ لكَ حتفًا قاضيًا فقال الشامي: من هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمةُ بنتُ الحُسين، وتلك زينبُ بنتُ عليّ بن أبي طالب فقال الشامي: الحُسينُ بن فاطمة وعليُّ بن أبي طالب؟! قال: نعم قال الشاميّ: لعنكَ اللهُ يا يزيدُ، تقتلُ عترةَ نبيك وتسبي ذريته، واللهِ ما توهّمتُ إلّا أنَّهم سبي الروم فقال يزيدُ: والله لألحقنك بهم ثم أمر به فضُرِبَ عُنُقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (١) الشورى: ٣٣ (2) الأنفال: 41 (3) الأحزاب: 33 (4) الملهوف ص 156 - 158
اخرىيستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىخلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرى(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىرحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىبقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىعالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى